إشاراتُ استفهام متعددة رُسِمت حول حقيقةِ الدلالاتِ والمعاني لتصرفاتٍ بدت غريبة عن ثقافة المكان وأعادت إلى الذاكرة مشاهدَ الوقائع الدامية التي ميزت ربيع الدم العربي وكأن الإصابة بالعدوى ليست قاصرة على الأمراض العضوية فقط..بل أصبحت تطال واقع الحياة الحيوية للشعوب في مختلف بقاع العالم ما يعكس ذلك الكثير من مشاعر الاستهجان وحالات غير مسبوقة من الغليان والفوضى لدى تلك الشعوب..
وعدم استيعابهم صيرورة ما يحدث بفعل الغموض الذي يكتنف مصائرهم وواقع دولهم نتيجة انعدام فرص الحلول والتسويات من الداخل ومن صلب التجارب والشواهد.
وضعٌ جديدٌ قديم.. ترى: هل التاريخ يكرر نفسه فنشهد ولادة عالمٍ برأسين كتلة شرقية وأخرى غربية وحرب باردة بين الطرفين والنهاية ستار فولاذي.. أم أننا سنكون أمام بداية أفول نجم الامبراطورية الأمريكية، وبالتالي نشهد مستقبلاً نهاية حقبة تاريخية لإمبراطورية غذَّت قوتها العسكرية والاقتصادية وتربعت على عرش العالم بضخامة نفوذها وسطوتها.
هناك في الجانب الشرقي من أوروبا حيث مدينة (كييف) عاصمة أوكرانيا لم تكن زوبعة تهب لفترة وتمضي دون أن تخلف آثاراً يشهد عليها التاريخ والزمن.. بل كانت عاصفة عاتية حملت معها رهان المغامرة لعميل الاستخبارات السابق ولاعب الهوكي (بوتين) الرئيس الحالي لروسيا لخوض لعبة شطرنج سياسية وغير مسبوقة.. وكأنه حنينٌ تاريخي لاستعادة الفخر الضائع عقب انهيار الاتحاد السوفيتي والعمليات العسكرية في القوقاز.. فما كان منه وخلال أيام إلا أن قام بضم جزيرة القرم الأوكرانية إلى روسيا بحجة حماية الناطقين للغة الروسية.. إلا أن ما وراء ضم القرم لروسيا ما هو أبعد من تلك الحجة الواهية فبوتين يهدف إلى تأمين مصادر الطاقة ومعظمها يوجد في شرق أوكرانيا وجنوبها وهي ذات أغلبية سكانية روسية.. لكن ذلك ليس كل شيء من أحلام سيد الكرملين وقيصر الروس الذي اعتبر أن انهيار وزوال الاتحاد السوفيتي كارثة التاريخ.. لذا فالطموح عنده لا يقف عند حد معين.. بل الطموح هو استعادة النفوذ الروسي على أكبر قدر من تراب المساحة الجغرافية للاتحاد السوفيتي القديم..لذلك لم يترك هذا الرجل مجالاً لتحليل معنى الحدث الذي شهده العالم يوم أن أعلن ضم جزيرة القرم إلى روسيا متحدياً بذلك كل القوى والموازين بمعادلة جديدة في السياسة الدولية.. لا مكان بعد لازدواجية المعايير والقرم عادت لأمها؛ هكذا قال وسط حشد كبير من الشعب الروسي أبكته فرحة عودة القرم إليهم وأسعدته عودة روسيا إلى ذاتها كقوة لها فاعليتها ومكانتها الاستراتيجية على الساحة الدولية، وهذا ما يسعى إليه الرئيس الروسي وهو الواقع المقروء اليوم..
فرغم التهديدات بفرض عقوبات اقتصادية قاسية على روسيا من أمريكا وأوروبا إلا أن ذلك لم يُثنها عن التراجع عن ضم جزيرة القرم..وأصبح سعي روسيا نحو تأكيد قوتها يمثل مصدر غضب وتهديد للنظام الدولي من وجهة نظر أمريكا وأوروبا.. وهذا أحد جوانب النذر التي ترهص وتنبئ بتقلص النفوذ الأمريكي في العالم ناهيك عن الخلل الذي يعاني منه الميزان التجاري الأمريكي بسبب الأزمة الاقتصادية وخوضها حروب عقيمة داخل العراق وأفغانستان.
جوهر الأزمة الأوكرانية والملف السوري المتأزم والذي يدار بكل برود من الجانب الروسي يجعل أمريكا والغرب تقفان بذهول وعجز أمام الإصرار والتعنت الروسي الذي يسارع ويصارع لاسترداد دوره المفقود منذ عام 1991 وإلى محاولة التشبث بموطئ قدم في منطقة الشرق الأوسط.. لذا لا تتورع موسكو عن سياسة التعطيل وتجميد المواقف والتدخل كما في سوريا وأوكرانيا وإعادة جزيرة القرم إلى أمها كما يزعم..
توجهات الرئيس الروسي تبين بأن طموحاته هي العودة إلى العصر الامبراطوري.. واثبات وجوده كقوة كبرى تعود بزخم إلى الساحة الدولية فهل تتحقق أحلام القيصر الباحث عن كنزه المفقود..وهل تفقد أمريكا تاج الامبراطورية العالمية..العالم يتابع ويراقب بحذر فرهان المغامرة لم ينته بعد.