في أفق ما يسمى بالعولمة .. وتضخم إمبراطورية الشركات العابرة للقارات.. وطغيان الثورة المعلوماتية، لا يزال موضوع الاستشراق يشغل ذهن السياسي والمفكر والمثقف العربي باعتباره خلفية فكرية لإحدى قضايا حروب الغرب على الإسلام والمسلمين.. لذلك ليس من الصعب على من يقرأ تاريخ الاستشراق أن يدرك الإشكالية التي يعيشها الفكر العربي والإسلامي في نظرته وموقفه منه.. إشكالية تمثلت بتضارب واختلاف مفكري ومثقفي العرب من أعمال المستشرقين بشكل عام، رغم أن الرفض القاطع لكل ما صدر ويصدر عنهم من بحوث
وكتب ودراسات وتوجهات هو الغالب في الوسط العربي والإسلامي؛ ذلك أن ماهية الاستشراق في رؤية الفكر العربي الإسلامي تكمن في تشويه صورة الإسلام والمسلمين لحماية الغرب من انتشار الإسلام بعد أن عجزت عن القضاء عليه من خلال الحروب الصليبية.. ولهذا دأبت غالبية من مستشرقي مدارس الاستشراق المريضة منذ بداية عهدها بالدراسات العربية والإسلامية إلى دس السموم بصورة متدرجة وخفية بما يخدم مصالح الغرب وتحقيق أهدافه.
ورغم أن الاستشراق معني بالشرق إلا أنه في واقعه معني بالإسلام، وتحديداً المنطقة العربية، لتميزها بعظمة الإسلام. وقد أشار إلى ذلك المستشرق (بيرغر)؛ إذ قال: عظمة العرب من عظمة الإسلام. لكن العظمة التي يقصدها هذا المستشرق ليست تلك العظمة المنحصرة في نطاق المنجزات المعرفية فقط، بل تتجاوز ذلك كثيراً إلى نطاق المساحات الجغرافية والتاريخية للمنطقة العربية، وما تحويه من كنوز دفينة؛ لهذا لم يعد المستشرقون ينظرون إلى العالم العربي والإسلامي بوصفه مصدراً للعلم والمعرفة بعد أن استنزفوا مكتباته التاريخية والتراثية، وهجَّروها، وترجموا نفائسها، وسرقوا مخطوطاتها، وطمسوا معارفها، وغطوا آثار الجريمة.. فالاستشراق التقليدي غيّر من جلدته بما يتناسب والأحداث والقضايا المعاصرة، وأصبح التركيز على المناحي السياسية والجغرافية، وأنواع الحكومات والسياسات الداخلية والخارجية، وسبل الهيمنة على الثروات الطبيعية، وتوظيف تقنيات حديثة في البحث والرصد داخل جغرافية الأرض العربية والإسلامية.
لقد تحول الاستشراق من دراسة الماضي إلى دراسة الحاضر لمعرفة مستقبل المنطقة العربية، وهذا ما نطلق عليه الاستشراق المعاصر، أو ما يعرف بدراسات الدول العربية والإسلامية وشعوبها تحت مختلف التخصصات، كالسياسة والاقتصاد وجغرافية المنطقة وغيرها.
الاستشراق المعاصر ما هو إلا امتداد للاهتمام بالعالم العربي والإسلامي الذي يحظى بدعم الحكومات الغربية من حيث التمويل والإفادة من معطيات البحوث التي تنتجها جامعات متعددة ومراكز يطلق عليها مراكز التفكير، تقدم دراساتها المحمومة واقتراحاتها حول قضايا العالم العربي والإسلامي في مختلف المجالات؛ لذلك لم يكن دافع الفكر الاستشراقي المعاصر واحداً ومقتصراً على دراسة حضارة ولغة وثقافة العرب والمسلمين فقط بل متنوعاً ومتداخلاً، وإن كان يغلب عليه في ظاهره الطابع العلمي، إلا أن باطنه سبر لأغوار العالم العربي والإسلامي للسيادة عليه والتحكم فيه عبر العجرفة والاستخفاف بالقوانين الدولية، ونهج سياسة الاستعلاء والفوقية، وتنميط البشرية نحو توجهات بلاد العم سام والغرب بشكل عام. وأصبح المستشرقون ممن يطلق عليهم عادة (خبراء الشرق الأوسط) يسعون إلى تقديم الخدمة المباشرة إلى صانعي القرار، وتزويدهم بالمواد البحثية المتعلقة بشؤون الشرق الأوسط وقضاياه المتشعبة والمتداخلة.
ومهما كان الأمر من دوافع الاستشراق.. فإن من طبيعة الإنتاج البشري أن يتأثر كل التأثر بالطبيعة البشرية.. وإذا كانت الطبيعة البشرية على فطرتها تحمل الصواب والخطأ فكذلك يأتي إنتاجه العقلي.. ولما كان الإنتاج الاستشراقي أحد النواتج البشرية فطبيعي أن نجد الصالح والطالح في نتاج العقل البشري، وقد يتغلب جانب على آخر. ومن هذا المنطلق لا يمكن تصنيف جميع المستشرقين في خانة واحدة، ونزعم أن منهجهم في دراساتهم وأبحاثهم عمل شيطاني وأداة استعمارية رغم أن هذه هي الصفة الغالبة؛ فهناك فريق من المستشرقين كان أكثر موضوعية في تناوله موضوع دراساته عن العالم العربي والإسلامي.
عموماً، فالاستشراق تيار فكري وجَّه - ولا يزال يوجِّه - سهامه صوب منطقتنا للنيل منها، وفرض سيادته وهيمنته عليها.