وبعد أن عرضنا في الجزء الأول من هذه المقالة لفلسفة مفاهيم الأمن الوطني؛ وأشرنا إلى أهمية تكامل عناصر قوة الدولة الأربعة: (الدبلوماسية، والمعلوماتية، والعسكرية، والاقتصادية)، علينا أن ندرك خطورة الاحتمالات السلبية التي تكمن في صعوبة الفهم وصعوبة التبني لأي إبداعات
ومستجدات تنتج غالبا عن التجاذبات والمنافسات بين ممثلي هيئات الدولة ووزاراتها ذات العلاقة لانطلاقهم من رؤى وخلفيات متعددة. فالمعروف أن أعظم وأفضل خطط التنمية وخطط الحرب على حد سواء يمكن تفشل عندما لا تصبح مفهومة ومبسطة وفي بيئة ملائمة وقابلة لتبني وتنفيذ الإبداعات. ولا يمكن في العمل الاستراتيجي الوطني أن تقوم كل وزارة أو هيئة وطنية أو حتى اللجان المؤقتة بالعمل المشترك من خلال أفكار وأطر استراتيجية متباينة؛ لأن ذلك يعتبر مضيعة للجهود وللوقت وللخبرات المتراكمة المفترضة في ممثلي الحكومة. ففي شأن القوة الدبلوماسية أصبح من الواضح أن الأشكال الفعلية للحكومات، ولكل منها نقاط قوته ونقاط ضعفه، تلعب دوراً هاما في تفعيل عناصر القوة الوطنية لصالح المجهود الوطني عندما تدعو الحاجة لتفعيل القوة الدبلوماسية. وهنالك مصادر مباشرة وأخرى ضمنية يمكن تحويلها معنويا ودبلوماسيا لصالح المجهود الوطني؛ أو يمكن أن يكون العكس من ذلك مؤديا إلى نتائج سلبية. وهكذا، تمكنت مجتمعات الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا، وغيرها من اختراق وإضعاف الحكومات وتغييرها لضعف هيكلة ومفاهيم الحكومات وعدم استنادها إلى أرضية صلبة من التخطيط التكاملي. وفي مجال المعلومات كعنصر قوة وطنية نذكر بما يتوفر في هذا العصر من معطيات ووسائل الابتكار والإبداع المفترضة في العمل الاستراتيجي حيث يرى البعض أن تقنيات العصر بما فيها من قواعد معلومات ومعارف ووسائل تحليل وتقييم وعرض قد يسرت الكثير وجعلت الأمور أكثر سهولة على الفهم والتصور. وتتمكن الدولة بكافة مكوناتها تقودها الحكومة بتحويل المعارف ولمعلومات إلى قوة وطنية فاعلة ومؤثرة في قوى الدولة الأخرى. وتعد المعلومات منظومة متكاملة متنوعة من الوسائل والمعارف والبنى التحتية التقنية والفكرية والحضارية. ومن نافلة القول إن ما حدث من تقدم متسارع ومتجدد في تقنية المعلومات والاتصالات وفي شتى مجالات المعرفة سيكون له تأثير بالغ على مجريات الشؤون العالمية. ومع تقدم الزمن تكتشف أدلة جديدة على هذه التغييرات المعلوماتية المؤثرة؛ وخاصة في الوسائل والبرامج وما يرتبط بها في الشئون الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وعلى سبيل المثال، ولأنها تعتمد على المعلومات فإن فاعلية وقوة المنظومة العسكرية والأمنية تقاس بقدرتها في مجالات اللاستطلاع والتحليل والقيادة والسيطرة التي تؤسس اليوم على معطيات المعلومات.
وفي شأن القوة العسكرية فإنه ما لم تصبح المنظومة العسكرية والأمنية للدولة ذاتية البناء والتعزيز وقد أسست لتبقى ولتتمكن من إعادة التكوين الذاتي تحت أسوأ الظروف في نظامها وتسليحها وبناها التحتية والفكرية ووسائلها وتقنياتها. وما لم تصبح الميزانيات العسكرية متكاملة مع بقية قوى الدولة ومتطلباتها فإن الميزانيات العسكرية ستظل إحدى الثغرات الكبرى في مستقبل استقرار الدولة لاستنزافها الهائل المتوقع لميزانيات الدولة إلى درجة إضعاف قوة الدولة إذا ما تم على حساب أوجه التنمية الأخرى ذات الأولوية الوطنية. كما تصبح النفقات العسكرية عبئا على الاقتصاد الوطني حين يتم تخصيصها بسخاء لا يقابله تهديدات محتملة ومتوافقة مع أحد مباديء الحرب الذي يؤكد على الاقتصاد في استخدام القوة. كما لا يجوز التخطيط للميزانيات العسكرية بمعزل عن التخطيط لعناصر قوة الدولة الأخرى حتى لا تختل مقدرة الدولة على إكمال بقية محاور تنميتها المستقبلية. وهكذا، تسهم القوة العسكرية في تحقيق أمن الأمة والوطن عندما تكون الحكومة قادرة على عرض قوتها وبذل التضحيات وتسخير مقدراتها اثناء السلم لتجنب الحرب، وقادرة كذلك على شن الحرب بمؤازرة قوى الدولة الأخرى لمواجهة التهديدات للحفاظ على أمنها ضد ما يهدد مصالحها العليا. ويعد عرض القوة في زمن السلم بغاية الردع وتحقيق الأمن الوطني مفهوما آخر يستحق نصا خاصا ومكتملا ليس هذا مجاله.
وفي شأن القوة الاقتصادية نرى بأنها ترتبط بقدرة الدولة على استغلال مصادر قوة البلاد وتحويلها من مجرد مصادر عامة إلى قوى فاعلة. فقد تكون الدولة غنية بالموارد ولكن ليست لديها المقدرة على تحويل تلك الموارد إلى منتجات رئيسية وصادرات تقنية متقدمة ومظاهر أخرى من مظاهر القوة الاقتصادية.
كما يؤدي الاقتصاد المحلي القوي إلى قوة معتبرة على الصعيد الدولي. فالدول الصناعية الكبرى لديها كافة الأساليب لممارسة القوة بما في ذلك المكافآت أو العقوبات عن طريق التجارة الخارجية أو المساعدات الخارجية والاستثمار والقروض أو مجرد ما تحدثه سياساتها المحلية من تأثير على الاقتصاد الإقليمي أو العالمي. ومجمل القول أن قوة اقتصاد الدولة لها تأثير مباشر على تنوع وقوة ومصداقية خياراتها الاقتصادية الدولية. وبعد أن عرضنا لمفاهيم عناصر القوة نؤكد هنا بأنها تتحقق وتتضاعف قوتها من كفاءة المخططين الاستراتيجيين من كل التخصصات الوطنية ذات العلاقة بالتخطيط الاستراتيجي الشامل لتنمية واستقرار البلاد. فبالمشاركة والتوافق والدمج بين مقدرات الوطن لصالح قوة الوطن انطلاقا من رؤية وطنية موحدة ومفهومة كسياسة عمل مقر من الحكومة ومعتمد كسياسة إدارية ترتقي بمفاهيم المخططين لإدراك أهمية قوى الدولة الأخرى في التأثير على مجريات الخطط المستقبلية المتوقعة في شتى المجالات لضمان قوة الوطن وحصانته. كما أن فهم الخصائص والعلاقات المتداخلة بين عناصر قوة الدولة وتاثيراتها يتيح للمخططين توسيع العملية لاستيعاب كيفية دمج مشتقات أدوات القوة بفعالية فائقة كخيارات سياسية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الوطنية. ومن المؤكد أن التخطيط الفاعل لتحقيق أي مستوى من مستويات الأمن الوطني بمفهومه الشامل يجب أن يضع في الاعتبار نوع وحجم وفاعلية عناصر القوة الوطنية الملائمة لطبيعة المهام تحت الإجراء والأهداف المفترض تحقيقها سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية أو عسكرية. ونتيجة لذلك لا ينبغي فقط تحليل كل عنصر من عناصر القوة الوطنية بمفرده، وإنما يجب أيضاً أن يؤخذ في الحسبان تأثير هذه العناصر على بعضها البعض. وختاما، فإن قوة الدولة تصبح أكثر وضوحا عندما تكون رؤية الأمن الوطني واضحة للمخططين وللوكالات الحكومية المعنية؛ لأن ذلك ينتج عنه تراكم إيجابي في قراراتها وردود أفعالها لتحقيق الأمن الوطني. وليس تحقيق الأمن الوطني مجرد غاية حربية أو عسكرية أو إجراءات خاصة بإدارة الأزمات التي تواجهها الدولة أو الالتزامات المحلية والدولية التي تتبناها، بقدر ما يترجم التخطيط الاستراتيجي الوطني المتكامل إلى خطط وطنية مدنية وتنموية طويلة ومتوسطة وقريبة المدى تراعي تحديات المستقبل. ومن أهم مقومات نجاح التخطيط المستقبلي لتكامل قوى الدوة أن تكون لها افتراضات مستقبلية لمواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية مثلما تكون لها افتراضات لعرض القوة في زمن السلم لتحقيق الردع وحفظ الأمن وصيانة السلم. ويشمل التخطيط الوطني السليم المستمد من واقعية رؤية الأمن الوطني تصورات مفترضة لتحويل بعض التحديات إلى تهديدات مباشرة تترجم في صورة خصم أو اعداء محتملين تحتم اسوأ الظروف مواجهتهم بمعطيات وعناصر قوة تناسب طبيعة النزاع المفترض حين حدوثه.