احتفالية استثنائية كان الفارس العربي والشخصية العربية محورها. في ليل طقسه شديد البرودة؛ أكسبه الفارس العربي دفئا وحرارة وإثارة. فوجئت مثل غيري من الحضور بذلك الاستقبال الحار بالتصفيق والبهجة وتلك المشاعر الجميلة حين خرج علينا ذلك الفارس العربي ممتطيا صهوة جواده. حضور كثيف في مدرجات مكتظة بالجمهور الذي جاء ليشهد ذلك الحدث. ملحمة يصعب وصفها في مقالة لما فيها من أبعاد تاريخية وسياسية وثقافية وفنية رائعة؛ تستحق المزيد من العرض والتحليل.
في ذلك الحدث الجميل الذي تكرر كل مساء لعدة أسابيع متتالية؛ ينطلق الفارس العربي على جواده ليخطف أنظار الحضور ويشد انتباههم لما يدور أمامهم أعينهم من أحداث يقارب زمنها الساعتين. مرت سريعا, فلم يتعجل الحضور بالخروج على أمل رؤية أية أحداث أو مشاهد ختامية أخرى. آخر الفرسان؛ عمل محكم ومستند إلى أحداث وقصص تاريخية حقيقية. رحلة مليئة بالبطولة والفروسية والرومانسية والخيال؛ في مشاهد من سحر بلاد العرب وقصصها وفرسانها, ولياليها المغلفة بقصص الحب والحرب والبطولة.
حين تجلس في وسط ذلك الجمهور من المجتمع الغربي تقتنع بأن تعزيز وتفعيل العلاقات بين الشعوب بالوسائل التي منها تاريخ وثقافة الفروسية تعد من أبلغ الوسائل الثقافية والحضارية لأنها تتم في مناخ هادئ ومتميز. تأتي تلك الجموع بخيارها ورغبتها وتطلعها لثقافة الآخر وتاريخه وفنونه. ولا تستطيع جهة بعينها أن تملي أجندتها حين يكون العمل عن الخيل والفروسية عموما, لتمنع التفاعل والاتصال الإيجابي؛ حيث للخيل محبون وعشاق في كل المجتمعات.
وقد أحسن القائمون على الفروسية السعودية والداعمون لها في اختراقهم الحضاري والدبلوماسي الرائع؛ على جسور الخيل وأسطورة الحصان العربي التي لها عمقها التاريخي وجذورها الحقيقية. وفي ذلك يقول الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد وزير التربية والتعليم , أحد أبرز القائمين على شئون الفروسية في مفاهيمها الثقافية والدبلوماسية: “المملكة جزء من هذا العالم .. والحصان يجمعنا”.
وكنت قد كتبت عن الحصان الأزرق الذي يزعم البعض بوجوده؛ وآخرون يرون أنه مجرد أسطورة. وقد تخيل بعض الفنانين التشكيليين الحصان الأزرق، فرسموه في أروع الصور بلونه الأزرق الزاهي، وكسبوا مكانة فنية مرموقة ومبالغ مالية طائلة بسبب الخيال الفني. كان ذلك في إطار مقالة سابقة مرتبطة بدور الفروسية في مد جسور العلاقات الثقافية والدبلوماسية بين المجتمعات. ومن الطبيعي, أن تستغل الدول والمنظمات الخاصة الفرص, وتستفيد منها لمد جسور كثيرة, وتجسير فجوات أكثر في العلاقات الدولية.
وقد أتيحت لي الكثير من الفرص لحضور مناسبات حول العالم بصفة رسمية أو شخصية ووجدت أن المناسبات والمعارض التي يكون للحصان العربي فيها نصيب تعتبر من أكثر المناسبات حضورا وتشويقا. فقد حضرت معرض (هدية من الصحراء) الذي نظم في مدينة ليكسنغتون في ولاية كنتاكي بأمريكا في ربيع عام 2010م. وكذلك حضرت معرض الخيول العربية في المتحف البريطاني الذي أقيم خلال صيف 2012م في مدينة لندن ببريطانيا. وكلا المناسبتين ركزتا على تاريخ الحصان العربي عبر الماضي والحاضر في السلم وفي الحرب وما يرتبط به من الموروث العربي الجميل.
فالخيل في الماضي رمز للقوة ووسيلة لتحقيق النصر. وهاهي لا تزال كذلك بوسائل أخرى حيث اعتبرت جسرا ذهبيا للوصول إلى الضفة الأخرى لمد جسور التبادل الثقافي والدبلوماسي. وقد كانت أسطورة الحصان العربي ولا زالت مسيطرة على أذهان الكثيرين وخصوصا في المجتمعات الغربية التي يشتهر في أوساطها حب الخيول العربية واقتناءها والتفاخر بها في الإسطبلات والسباقات وكثير من المجالات الفنية.
مناسبة هذا الكلام إنني كنت قد شهدت قبل عدة أسابيع احتفالية استثنائية؛ وكان الحصان العربي فارسها والفارس العربي والشخصية العربية محورها. كنت بين جمع كبير, فلم أصدق ما أسمع وأشاهد حين خرج من أمامنا فارس عربي بلباسه العربي يمتطي صهوة حصان عربي أصفر؛ فاستقبله الحضور بالتصفيق الحار والأصوات المشجعة. كان الحدث في وسط مدينة مدريد عاصمة أسبانيا في مساء الخامس من ديسمبر الماضي 2012م. في ليل طقسه شديد البرودة؛ أكسبه الفارس العربي والحصان والموروث العربي دفئا وحرارة وإثارة.
قصة انتقال الخيول العربية من وسط جزيرة العرب إلى مصر ومنها إلى أوروبا وبلاد الغرب؛ بعنوان: آخر الفرسان The Last Horse Man. أحداث انطلقت من أرض نجد قلب جزيرة العرب وامتدت إلى ضفاف وادي النيل في قاهرة المعز. تطورت الأحداث لتحكي لمحة سياسية ذكية عن الأمام فيصل بن تركي والملك عبد العزيز بن عبد الرحمن وعلاقتهما بالخيل العربية الأصيلة ودور الخيل في حياتهم؛ وفتحت شهية الحضور للبحث عن مزيد من المعرفة. واقع سياسي صاحب قصة عشق الفرسان العرب لخيولهم وأبان الدور الأبرز للحصان العربي الذي على صهوته تمكن (آخر الفرسان) من توحيد مملكته وأعاد مجد أجداده وبنى وطنا شامخا ومستقرا.
في مسرح الكنار وسط مدينة مدريد تم افتتاح العرض الأول - لمسرحية عالمية أحداثها حقيقية -تحت رعاية ملك أسبانيا وبحضور الملكة صوفيا ورئيس الوزراء وعدد كبير من الشخصيات السياسية والدبلوماسية والثقافية. الفرسان وعلاقتهم بالخيل ودور الحصان في حياة الناس في الحب والحرب, عمل فني عالمي ما كان له أن يتحقق ويحظى بالإعجاب الكبير لولا أنه يقوم على معطيات تخطف الأنظار تمت صياغتها وإخراجها في قالب درامي مذهل جعل الحضور يتابعون الأحداث بشغف بارز وتصفيق اكتظت به المدرجات طيلة مدة العرض.
قصة عربية تاريخية, فيها أحداث عربية تتمحور حول الحصان العربي والفارس العربي والمظهر واللباس العربي والقيم العربية الرفيعة؛ جمعتها خبرات مهنية عالمية. أسطورة الحصان العربي في مخيلة كثير من الشعوب الغربية أكده ذلك العرض الفائق في جودته الفنية ومكانة القائمين عليه في المسرح العالمي. استطاع العرض المسرحي أن يحاكي قصصا واقعية وأسماء وشخصيات واقعية ولباسا عربيا ومظاهر لصحراء العرب. تتمحور الأحداث حول قصة تمت في عهد الإمام فيصل بن تركي الذي أهدى عددا من الخيول العربية إلى عباس باشا في مصر؛ وانتهت بقصة آخر الفرسان القائد المؤسس الذي امتطى صهوة جواده في معارك توحيد البلاد.
وبعد أن سررت بحضور العرض الافتتاحي الأول وشهدت الإقبال الكبير للحضور كنت لحظتها مشدودا بردود أفعال الحضور من المجتمع الأسباني عموما, رغم استمتاعي بمشاهدة أحداث القصة التاريخية وما صاحبها من مؤثرات وقصص جانبية. وبسبب ذلك العمل الفني المؤثر عدت لحضور العرض مرة أخرى بعد عدة ليال حيث استمتعت بمشاهدة ما فيه من صور ورسائل ومؤثرات؛ فكانت مشاهدتي الأخيرة أكثر إثارة من سابقتها. ففي العرض الأول الافتتاحي كانت الأصوات مرتفعة والتصفيق مستمر لأحداث القصة, رغم الحضور الرسمي والكثير ومن جنسيات متعددة لضيوف الحفل الافتتاحي.
وقد انتشرت إعلانات العرض المسرحي في شوارع وميادين المدينة. إعلانات جاذبة متمثلة في صورة فارس عربي على صهوة جواد عربي, وكانت الاستجابة لها كبيرة حيث امتلأ المدرجات بالحضور من عامة الناس من محبي المسرح العالمي. وما أن خرج الفارس العربي في تصوير متحرك ثلاثي الأبعاد كأنها مظهر حقيقي حتى تعالت الأصوات والتصفيق الذي يستحقها الفارس بمظهره وزهوه بنفسه وبحصانه ولباسه العربي. إن ذلك العرض يعد واحدا من أهم مشاريع الثقافة المشتركة التي تجمع الثقافتين العربية والغربية في إطار فني شيق يجذب الكثير من كافة الشرائح الاجتماعية في حضور كثيف ومتكرر. وتدور أحداث العرض المسرحي حول “طراد” ذلك الشاب العربي المتعلق بالحب والوفاء لحصانه الذي تبين له أنه انتقل ضمن مجموعة من الخيول العربية إلى القاهرة بمصر ثم بيع الحصان ونقل بحرا إلى بريطانيا؛ فذهب الشاب طراد مقتفيا أثر حصانه ومتتبعا أخباره في رحلة شاقة وشيقة تخللتها الكثير من القصص والمواقف الدرامية.
صاغ هذا العمل الفني ووضعه في قالبه المسرحي عدد من الفنانين الأسبان والعالميين مستوحين موضوعه من فكرة الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن، التي جمعت بين الخيال والتاريخ والشعر. وقد نقلها إلى هذا الواقع المسرحي الشيق بلوحاته المتنوعة وأغانيه المؤثرة عدد من الفنانين.
فقد أعاد كتابة النص الكاتب المسرحي الأسباني أندريه غوميز الحائز على جائزة الأوسكار, والمؤلف وكاتب المسرح الأسباني راي لوريجا, وكاتب الأغاني الشهير البريطاني جون كاميرون, والمغني والملحن البريطاني ألبرت هاموند, وباري ماسون أحد أهم كتاب الأغنية في العالم, وأما مخرج هذا العمل المسرحي الموسيقي فهو الشهير فيكتور كوندي.
ويقف خلف هذا العمل الثقافي والدبلوماسي شخصيات مخلصة ومحبة لهذا الوطن وموروثه الجميل وفي مقدمتهم سمو الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد وزير التربية والتعليم رئيس مجلس صندوق الفروسية الذي قال:”هذا العمل الفني يجسد رؤية وإيمان القائد عبد الله بن عبد العزيز بقدرات إنسان هذا الوطن على نقل رسالته للعالم والتي تصور بلاداً تستند على حضارة راسخة عبر آلاف السنين، ويؤكد المفهوم الواسع لدور الفروسية الثقافي والرياضي”. وأضاف: “للسعودية مكانة خاصة في نفوس أكثر من 1.7 بليون مسلم حول العالم، ينظرون إليها بشكل مختلف، ما يوجب علينا أن نقدم الأفضل من الأعمال والبرامج في كل المجالات، لاسيما الفروسية بحصانها العربي الأعرق إذ يزيد عمره على 9 آلاف عام، وفق أحدث الدراسات والبحوث”.
ونظرا للنجاح المتوقع لهذا العمل المسرحي, أتمنى أن تهيأ له الفرص لانتقاله إلى عدد من أهم المسارح العالمية التي يرتادها الملايين في أوساط المدن الغربية الكبرى مثل لندن وباريس ونيويورك, وغيرها.
mabosak@yahoo.com* عضو مجلس الشورى