يعرف الجيش المتجدد أو الجيش المبدع، بأنه الذي يتمكن من ملاحقة الطفرة التقنية في المجال العسكري أنظمة وعتادا ومعدات حرب؛ ليمتلكها ويسخرها في خدمة مهامه وأهدافه، جاعلاً منسوبيه على معرفة دقيقة ودراية تامة بأوجه الاستخدام الصحيح نظرياً وعملياً.
ومن المؤكد أن القوات المسلحة ذات الرؤية الصائبة في مسعاها الدائم نحو التطوير والتحديث تجعل من أبرز سماتها خفة الحركة بكل وسائطها وأساليبها، ثم مقدرتها على توظيف وتفعيل الاعتماد على الأسلحة المشتركة في كل قوة واجب.
كما أن بناء الجيوش وتجهيزها عملية متجددة غير ثابتة؛ تبنى على نتائج التخطيط وقناعات المخططين والقادة بأن هذا التشكيل والتنظيم هو الأفضل للزمن والظروف الراهنة, من واقع الخبرة والتجارب السابقة، وعلى ضوء حاجة المستقبل؛ حيث الواجبات والمهام المكلف بها كل فرع أو وحدة قتال. ولهذا, فإن الجديد في المعدات الحربية والأسلحة التي يتم إدخالها من فترة إلى أخرى، وكذلك التجارب التكتيكية المستفادة، تفرض تغيير تشكيل القوات وتجديد أنظمتها وتحديث مذهبها القتالي، بغية الوصول إلى أفضل فعالية ممكنة وقت الاحتياج. وقد تكون الجاهزية الفائقة للقوة العسكرية والقدرة على عرض القوة في زمن السلم سبب في السيطرة على الأزمات ومنع نشوء الحرب, انطلاقا من هيبة القوة وتفعيل مفهوم الردع.
واستقراء لكثير من التجارب, فإن التحديث والتطوير - كما أسلفنا - في الجيوش مطلب حتمي يفترض أن يصبح منهج عمل تدار به شئون القوات. والعناصر التالية تعد في الغالب من أبرز الأمور اللازمة لإدامة تطوير وجاهزية القوة العسكرية بكل قطاعاتها وفروعها؛ وهي من قبيل الأولويات التي لا بد أن تشكل هاجساً لكل من يطمع في امتلاك المزيد من مقومات القوة العسكرية، ومنها:
- استقطاب القوى البشرية وتجنيدها وتأهيلها والحفاظ عليها وخاصة القوى الشابة النشطة من جميع الرتب طبقا لجداول تنظيم واقعية, واستنادا إلى مسارات وظيفية محكمة الإعداد؛ وتطبيق أنظمة التجنيد والاختيار والترقيات والحوافز والتقاعد وتكافؤ الفرص وغيرها؛ مما يسهم في الحفاظ على منظومة مؤهلة ونشطة تعتز بمؤسستها العسكرية. وهذا شأن يعد من أكثر تحديات بناء القوة العسكرية وإدارتها, ويمكن قياسه عبر وسائل قياس حقيقية تبرهن عن مستوى الروح المعنوية في ظل قياس للأداء المهني والميداني الفردي والجماعي للوحدة الصغيرة مثلما هو للوحدة الكبيرة.
- الاستمرار في تجديد أنظمة الخدمة العسكرية نحو تحديث معايير التعيين والاختيار للتخصصات والوظائف، وكذلك تطوير منهج سلك ضباط الصف ورفع كفاءتهم العسكرية والعلمية باعتبارهم العمود الفقري لأي جيش. وتعتبر أنظمة الأمن الوظيفي ذات أولية في هذا العنصر المهم, حيث يحتاج العسكري إلى استقرار نفسي واطمئنان على مستقبله من خلال برامج تقاعد وتعويض وادخار مجزية.
- وضع برنامج خاص لتطوير تقاليد القوات المسلحة وتكثيف أساليب ووسائل الاعتزاز والفخر بما قدمته في تاريخها الطويل، بدءاً بترسية قواعد الأمن والاستقرار مع بداية تأسيس الدولة ومراحل بنائها ومروراً بكل الأزمات والحروب إلى آخر المعارك التي شاركت فيها ونالت شرف النصر والذود عن الوطن.
- تطوير مستوى التعليم العسكري، مع التركيز على التعليم العسكري الفني بجانب التدريب الحربي، وتحديث مناهج المعاهد العسكرية ومراكز التدريب بصفة دورية، ودعم هذه المراكز بكل جديد في الوسائل والمساعدات. مع ضرورة إدخال مفاهيم المعرفة الإبداعية والتخيلية لاكتساب معطيات المعرفة المتغيرة والمتطورة عبر منظومة من الخبرات والتصورات المهنية. فالجاهزية لاحتمال المستقبل المجهول تعتمد على مخزون عسكري ووطني قادر على تصور التحديات المستقبلية، وكذلك تصور احتمالات الاستعداد لها ومواجهتها انطلاقا من خبرات محلية وقدرات واقعية.
- إدخال المزيد من وسائط تطوير المهارات الحربية، التي تستدعي الحاجة امتلاكها سواء من واقع التمارين والتطبيقات العملية والميدانية بكثافة أكبر، أو من خلال وسائل ومساعدات التدريب والتعليم المتطورة، بما فيها من معدات ومشبهات تحاكي جميع الأنظمة العسكرية والأسلحة الحديثة. وقد لا يكتمل التدريب الفعلي إلاّ من واقع الإنفاق بسخاء على أشياء ليس من السهل رؤيتها، ولكنها متطلبات عسكرية ومهنية ضرورية للغاية, يدركها ويحددها المحترفون في الشئون العسكرية والحربية.
- تأسيس مركز وطني متكامل يعنى بالتدريب الحربي والأمني يتم فيه إجراء المناورات والاختبارات لتقويم الوحدات على مستوى الكتائب والألوية لقياس مدى كفاءتها، كما تتم فيه عمليات تحديث وتطوير المذهب القتالي طبقاً للمتغيرات والأحداث.
- تأسيس مراكز متطورة للبحث العلمي العسكري في شتى الاختصاصات، وكذلك إدارة عليا للتاريخ العسكري تتولى دراسة ومتابعة المعارك والأزمات ومقارنة أسبابها ونتائجها تمهيداً لمراحل الاستفادة من دروسها وعبرها.
- التركيز على منهج البحث العلمي والكتابة في جميع مناهج القوات المسلحة، ليصبح كل عسكري، ضابطاً أو فرداً، متمكناً وقادراً على البحث والتحليل الاستقراء والاستنتاج والكتابة في مستويات ومعايير تختلف من رتبة إلى أخرى، وتوضع لذلك وسائل التأهيل الإلزامي, مع مقومات الترغيب والمنافسة.
- وفي مراحل تطوير الجيوش، غالباً ما تصحبها خطة متكاملة لتطوير مفهوم العمل العسكري ليصبح ذا طبيعة احترافية يكتسبها كل عسكري، ليكون محترفاً حقيقياً للعمل العسكري بكل مقاييس الاحتراف التي تجعله يفخر بعمله, وليس مجرد شعوره بأنه يرتدي البزة العسكرية ويؤدي عملاً روتينياً.
ولهذا, فإن إدخال أنظمة وبرامج التقويم والاعتماد المؤسسي واعتماد البرامج الأكاديمية والعسكرية يعد من أهم وسائل تطوير القوة العسكرية, ورفع كفاءة منسوبيها, وضبط جودة مخرجاتها, ضمانا لمخرجات مهنية موثوقة ومعتمدة.
وأختم هذه المقالة بما بدأته من حيث إن القوة العسكرية لا تحقق الاستقرار أو تصون السلم بمعزل عن إمكانات وعناصر قوى وطنية أخرى, ثم إن بناء القوة وتنظيمها والحفاظ عليها وجعلها سباقة, وفي مستوى تحديات العصر لمواجة أزمات اليوم أو حروب المستقبل, لابد لها أن تدار بمفاهيم مهنية متطورة ومتجددة تضمن لها جاهزية يعتد بها في أي وقت. وكل ما تقدم حول مفهوم القوة ليس له أن يتحقق دون رؤية مستقبلية في هذه الشئون تترجم إلى استراتيجيات وخطط معتمدة وممولة تمويلا سخيا وقابلة للتنفيذ والقياس والمراقبة والمحاسبة. والله الموفق.
mabosak@yahoo.com* عضو مجلس الشورى