كانت البهجة غامرة في الأسبوع الماضي بتسليم جائزة الملك فيصل العالمية للفائزين بها هذا العام. ولقد تَحدَّثتُ باختصار عن كل فائز بها بفروعها الخمسة: خدمة الإسلام، والدراسات الإسلامية، واللغة العربية والأدب، والطب، والعلوم.
وكنت أود أن أواصل الحديث عن الجائزة. لكن عواصف الأحداث السياسية الرهيبة؛ وبخاصة الكارثية في سوريا، تجعل من الصعب تأجيل الحديث عن الكارثة السورية بالذات؛ إذ هي أفظع كارثة في العالم هذا القرن حتى الآن. ومن الواضح أن أكبر أسباب استمرار فظاعتها موقف كُلٍّ من إيران وروسيا الاتِّحادية الداعمتين لها؛ سياسيّاً و ماليّاً و عسكريّاً.
وكنت قد كتبت عدة مقالات حول تلك الكارثة منذ بدايتها. ومن تلك المقالات مقالة بعنوان: «التخاذل أمام النظام الإيراني»؛ وذلك بتاريخ 1-4-1434هـ. ومما أشرت إليه في تلك المقالة أن الأمين العام للجامعة العربية اتَّخذ موقفاً سيئاً يخدم النظام السوري الإجرامي، وأن منظمة التعاون الإسلامي برهنت على فشلها بدليل خضوعها لإرادة إيران بعدم الإشارة إلى جرائم النظام السوري في مؤتمر القاهرة؛ بل طالبت - كما طالب هذا النظام - بأن يتفاوض الثائرون ضد ذلك النظام معه دون شروط. وتوالت الأحداث. وتَحوَّلَ التباطؤ في اتِّخاذ أيِّ موقف جاد ضد مرتكبي الجرائم البشعة إلى تواطؤٍ مع أولئك المرتكبين للجرائم. واتَّضح الخضوع لإرادة إيران وروسيا الاتِّحادية. وفي10-7-1434هـ نشرت مقالة عنوانها: «طأطأة الرؤوس أمام تَحدِّي إيران والروس». ومما ذكرته في تلك المقالة أن من أسباب قوة النظام في سوريا رسوخ أقدام الطائفة الحاكمة في الجيش. وكان المستعمر الفرنسي لسوريا هو من بذر بذرتها الأولى فيه لأنه لم يثق بغيرها من السوريين. وازداد تَوغُّلها في الجيش شيئاً فشيئاً، كما ازداد نفوذ تلك الطائفة. وبعد عام 1963م بُدِّل نصف المُسرَّحين من الضباط السُنة - وعددهم 700 - بضباط من الطائفة المذكورة، وأصبح صلاح جديد؛ وهو منها، رئيس أركان الجيش، وحافظ الأسد قائداً للقوات الجوية. وكان من زملائهما ومن طائفتهما محمد عمران، الذي قال حينذاك: «إن الفاطمية يجب أن تأخذ دورها». وبلغت نسبة ضباط الجيش من تلك الطائفة خمسة مقابل واحد من جميع الطوائف الأخرى. وأصبح حافظ الأسد - بعد ذلك - أول رئيس للدولة السورية من الطائفة التي سَمَّاها المستعمر الفرنسي الطائفة العلوية. وكان الأسد داهية الدهاة في المكر والتخطيط. ومن يتأمل سيرته يدرك عمق دهائه.
على أن مما رسَّخ حكم الأسد ارتباطه بإيران مركز الدهاة المُحنَّكين. كان أتباع المذهب الجعفري (الإمامي) من الشيعة لا يرون الطائفة التي ينتمي إليها الأسد مسلمين. لكن وقوفه مع إيران في حربها مع العراق، التي كانت تحت زعامة صدام حسين، جعل قادة المذهب الجعفري يَعُّدون تلك الطائفة مسلمين. وهكذا أصبح حكام إيران وحكام سوريا في خندق واحد، وأصبحا مرتبطين ارتباطاً مصيريّاً. ودهاء حكام إيران من الأَدلَّة على قُوَّته ومهارته في تعاملهم مع الغرب، وتطويرهم ما طوَّروه من صناعات حربية. ولقد أثبت حكام إيران أن حكام سوريا لم يخطئوا في اتِّخاذهم سنداً لهم. وما ذا عن روسيا الاتِّحادية؟
من الواضح أن الزعامة الروسية متوثبة ومُصمِّمة على أن تبرهن على قوتها السياسية في المسرح العالمي، وأن تَتحدَّى الغرب - وعلى رأسه أمريكا - للتسليم بهذه القوة. ولقد تَعهَّد الرئيس الروسي بالوقوف مع النظام السوري؛ سياسيّاً، وبخاصة في مجلس الأمن والمنظمات الدولية الأخرى، وعسكريَّاً بإمداده بالخبراء وبالأسلحة الفتَّاكة. وأثبت الحاكم الروسي أنه قادر على الوفاء بتعهُّده. وهكذا، يَتبيَّن أن تَحدِّي إيران و روسيا للآخرين ما زال في عنفوانه.
ومن الواضح أن الغرب - وعلى رأسه أمريكا - لم يكن يهمُّه في المنطقة إلاّ مصلحة الكيان الصهيوني. فأمريكا - مثلاً - صَرَّحت عند بداية الهَبَّة السورية ضد النظام الجائر المُتحكِّم في سوريا أن الأسد فقد شرعيته، وأنه لا بد من إزالته. لكن بعد شهر من ذلك التصريح أعلن مندوب ذلك الكيان الصهيوني في مؤتمر بأوروبا أن الدراسة تَوصَّلت إلى أنه لا مصلحة له بزوال الحكم في سوريا أو إزالته. وما دام لا مصلحة في زواله أو إزالته فليس من المعقول عدم مراعاة هذه المصلحة. ولذلك بدأ موقف أمريكا والغرب - على العموم - يَتغيَّر. ولم تكتف أمريكا بعدم إمداد من قاموا بالهبَّة السورية بالأسلحة فحسب؛ بل وقفت ضد إمداد الآخرين لهم بالأسلحة. وهكذا ظَلَّ النظام المُتحكِّم الجائر في سوريا يُقتِّل الناس؛ شيوخاً وأطفالاً.. رجالاً ونساءً..، ويُخرِّب المدن والقرى بمختلف أنواع الأسلحة بثقلها. واتَّضح أن الغرب لا يهمُّه كل ذلك. وإنما يهمُّه أن لا يتعرَّض الصهاينة لأيِّ خطر أو أذى. واتَّضح، أيضاً، أنه لم يقف أحد موقفاً دالاًّ على الإخلاص في القضية السورية مثل قيادة وطننا العزيز زادها الله توفيقاً وسداداً.