مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة في دورته الـ29 مهرجان فريد يعبر بجلاء عن إشراقة فكر وثقافة وحضارة تشع من قلب المملكة العربية السعودية إلى العالم، كما تعكس تاريخ وتراث وثقافة الشعب السعودي العربي،
ونافذة يطل من خلالها العالم على هذا الإرث الحضاري العريق ويتعرف على إسهامات هذه الأمة في حركة الحضارة الإنسانية والقيم النبيلة التي شكلت وجدانها وهويتها.
وكما أكد ذلك الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، وزير الحرس الوطني ورئيس اللجنة العليا المنظمة لمهرجان الجنادرية في دورته الـ29، فالمهرجان في دوراته المختلفة يشهد إقبالاً كبيراً، وأن الجهة المنظمة ضاعفت المساحة الجغرافية التي ينظم عليها المهرجان حتى اتسعت للجميع، كما أن الدورة الحالية تعد المرة الأولى التي ينظم فيها الحرس الوطني المهرجان بصفته وزارة، ورغم ذلك فإن الاستعداد للمهرجان والإعداد له لم يختلف كثيراً عن الدورات السابقة فروح العمل واحدة وهو ما عاينه كل الضيوف.
وفتحت الجنادرية آفاقاً للفكر والحوار لم تكن معهودة قبل أكثر من ربع قرن من الزمان، وكما أكدت ذلك لوكالة الأنباء السعودية ولأخينا الأستاذ حسن الخليل الذي احيي فيه نشاطه اللامتناهي وحبه الكبير لوطنه ولمواضيع الساعة، فإن تخصيص مهرجان الجنادرية لموضوع الإسلام السياسي يعبر عن المساحة الفكرية الكبيرة الذي فتحه المهرجان لمجال يشغل بال الخاص والعام في الوطن العربي والإسلامي بل والعالم بأسره.
فللمستشار محمد سعيد العشماوي كتاب قيم عن الإسلام السياسي جاء في مقدمة الكتاب التي أنصح كل ذوي العقول النيرة والطلبة الباحثين والفاعلين السياسيين بقراءتها: «أراد الله للإسلام أن يكون دينا، وأراد به الناس أن يكون سياسة؛ والدين عام إنساني شامل، أما السياسة فهي قاصرة محدودة، قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسية قصر له على نطاق ضيق وإقليم خاص وجماعة معينة ووقت بذاته. الدين يستشرف في الإنسان أرقى ما فيه وأسمى ما يمكن أن يصل إليه؛ والسياسة تستثير فيه أحط ما يمكن أن ينزل إليه وأدنى ما يمكن أن يهبط فيه وممارسة السياسة باسم الدين أو مباشرة الدين بأسلوب السياسة يحوله إلى حروب لا تنتهي وتحزبات لا تتوقف وصراعات لا تخمد وأتون لا يهمد، فضلا على أنها تحصر الغايات في المناصب وتخلط الأهداف بالمغانم وتفسد الضمائر بالعروض. لكل أولئك فإن تسييس الدين أو تديين السياسة لا يكون إلا عملا من أعمال الفجار الأشرار أو عملا من أعمال الجهال غير المبصرين، لأنه يضع الانتهازية عنوانا من الدين، ويقدم للظلم تبريرا من الآيات، ويعطي للجشع اسما من الشريعة، ويضفي على الانحراف هالة من الإيمان، ويجعل سفك الدماء ظلما وعدوانا، وعملا من أعمال الجهاد. وعندما ساس النبي- صلى الله عليه وسلم- أمور المؤمنين كان يفعل ذلك بإرشاد الوحي ورقابته، في كل قول أو فعل أو تصرف، حتى يمكن القول - طبقا للاعتقاد الإسلامي- أن الوحي هو الذي كان يسوس أمر المؤمنين. وقد وقعت حوادث ظن فيها المؤمنون بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- يباشرها إيحاء من الله - فلما سئل في ذلك نفى الوحي فيما أتى؛ وقال في مرة إنه فعل ما فعله بدافع الحرب والرأي والمكيدة، كما قال في مرة أخرى -عندما كان الرأي المخالف هو الصحيح-: أنتم أعلم بشؤون دنياكم. ولا شك أنه - فيما عدا هاتين الواقعتين - توجد وقائع أخرى لو سئل فيها النبي صلى الله عليه وسلم لأجاب بما يقطع بأنه كان يصدر فيما قال أو فعل عن رأيه هو وليس عن توجيه من الوحي».
أردت من خلال هذا السرد أن أؤكد أن الزج بالدين في السياسة خطر على الدين وخطر على السياسة، فالإسلام بخير والمسلمون بخير والذي ينقصنا هنا هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب. الأحزاب الإسلامية الآن في بعض الأوطان مقتنعة على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. والزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يرونها هم أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة، ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة -داخل المجال السياسي- وهذه مصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
إن التحول السياسي في دول كمصر وتونس وليبيا مسلسل طويل... فلا توجد وصفة سحرية يستيقظ الناس صباحاً ليجدوا النظام السياسي الأمثل قد طبق.... فذهاب الأنظمة السابقة ليس الترمومتر الوحيد الدقيق لقياس درجة تطبيق وتجذير النظام السياسي الامثل... فالفكر والوعي السياسي والثقة بين الحاكم والمحكوم، والحاكم وكل المؤسسات أدق المقاييس وأجلها إلى كشف المستور الذي عادة ما يتأخر كشفه وهو بمثابة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حياً...
وأعود وأتساءل هنا: هل يعاني المسلمون في الوطن العربي من اختلال في شؤونهم الدينية؟ أظن أن هناك نهوضاً بالدين الإسلامي في سائر مناحي الحياة سواء الخاصة منها أو العامة والشريعة والدين موجودان في مجتمعاتنا، قارن معي: فمنذ مجيء عبد الإله بنكيران إلى قيادة الحكومة المغربية، هل تغيرت مسائل الشريعة والدين في المغرب؟ لا يحس المغربي من الناحية الدينية أي تغيير في عهد الحكومة الجديدة. لو جاءت حكومة أياً كان طيفها السياسي ونادت مثلاً بمساواة الرجل والمرأة في الإرث أو لو منعت إذا قدر الله إقامة الصلاة المكتوبة في المساجد لخرج كل المغاربة إلى الشوارع صغيرهم وكبيرهم لإزالة بطش الحكومة من كراسيها، فإذن تسمية الجماعات في بعض الأحيان بالإسلامية هي رديفة لما يسمي الآخرون أحزابهم بـ»الوطنية» أو «الأحرار» حيث لا يعني أن الآخرين كفارا أو مارقين أو فجرة، فالكل يجد من شعاراته ما يقوي شعبيته ويزكي حضوره ويعطيه الشرعية الضرورية ويغنيه من ضرورة قطع المسافات لتجذير وجوده وتصويت الناس له في الانتخابات المحلية والوطنية، إلا أن المرجعية السياسية الإسلامية هي معين لا ينضب لشريحة كبيرة من الأحزاب، لأنها تخاطب المشاعر والوجدان وتحمل الخاص والعام على ركوب سفينة تلك الشعارات الرنانة والمعبرة لما في النفوس.
العلوم السياسية المقارنة لا تمنع مثل هذه الأحزاب من لبس مثل هذه المرجعيات، ولكن الطامة الكبرى أنه لم تستقر بعد في الأذهان والأخلاد أن الشريعة والدين ولله الحمد ليسا في خطر، بل هما بخير، ويكفيك الذهاب إلى مساجد كل الأمصار العربية يوم الجمعة، وفي شهر رمضان لتتأكد بنفسك.
ولكن الذي يمكن أن يكون في خطر هو إدارة الشأن العام، وهذه الإدارة تحتاج إلى مسيرين أكفاء، وإلى رجال ذوي خبرة ومكانة تجعلهم على علم بقواعد التسيير وطبائع الأمور واختلاف الأشياء وتداعياتها. وعلى إحاطة بالحاضر من الأمور ومماثلة ما بينها وبين الغائب من الوفاق أو دون ما بينها من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف، خاصة وأن الظرفية الاقتصادية والجهوية والعالمية لا تحتاج إلى أدنى خطأ في أخذ القرار وترصد مكامن الخلل والزلل، ويذهل الكثير من الناس عن هذه المسألة المصيرية.