أعود مرة أخرى لأكرر أن الغرب متمثلا بشكل عام في الولايات المتحدة الأمريكية ،والاتحاد الأوربي وكندا، قد أثبت وحدة الموقف مع تضارب المصالح عندما حلت عليه كالصاعقة المشكلة القائمة بين أوكرانيا وروسيا الاتحادية.
روسيا قامت بضم إقليم القرم إلى اتحاده العتيق وجعلته جزءاَ لا يتجزأ منه، وألبسته حلله العسكرية، بعد أن كان مكتسيا حلله الثقافية من قبل. ومهما كان الادعاء الروسي، أو الادعاء الأوكراني. ومهما كان موقع الحق القانوني أو التاريخي. فإن النتيجة واحدة، وهي أن روسيا الاتحادية قد ضمت إلى كنفها جزيرة القرم، ولن تعود عن قريب.
وماذا عمل الغرب بعد ذلك، وماذا سيعمل لاحقا، فهذا ليس الموضوع المراد الحديث عنه، لكن المراد تكراره هو ذلك التماسك الغربي، والحديث بلغة واحدة حيال هذه الواقعة غير المنتظرة، فالعالم كان متجها إلى مزيد من التقارب والتعاون في ملفات كثيرة، تتعلق بالسياسة وحقوق الإنسان والاقتصاد، والقانون الدولي، وغيرها من المواضيع.
يدعي الاتحاد الروسي أن الغرب كتلة واحدة، يدفع بأوكرانيا أن تكون جزءاً منه، وربما أن ذلك صحيح، وهو بدوره يرى أن أوكرانيا لابد لها أن تكون موالية له حتى وإن كان ولاء مجاملة، أو أن تكون محبة للغرب لكن تنأى بنفسها عن أن تكون جزءاً منه.
فيما يبدو أن الغرب كان أكثر تأثيرا على الشعب الأوكراني بأنماطه السياسية والاقتصادية التي لا يمكنها أن تكون جميلة إلا لمن يحسن العيش فيها، وليس التزين بها، غير أن ذلك الجزء من أوكرانيا الذي يتحدث الروسية وله سابقة تاريخية معها، مال بثقله العاطفي إلى جذوره وثقافته غاضاً الطرف عما سيجنيه من آمال مرتقبة إذا ما مال إلى بريق النمط الأوربي الغربي في الحياة.
الغرب أدهش الجميع حقا بتكاتفه ووحدة كلمته رغم تباين مصالحه وثقافته ولغته ودينه وتاريخه، ومتناسيا تاريخ الحروب الحديثة والقديمة التي عاشها، حتى أن عدداً ممن عاش تلك الحقبة مازال على قيد الحياة.
اليونان تكاد تعتمد على الغاز الروسي، ومثلها اليابان، والمجر، وأوكرانيا نفسها، وغير ذلك من الدول، والمانيا لديها الكثير من التبادل التجاري مع روسيا، وحتى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا لهم نصيب غير يسير من التبادل التجاري والاستفادة مع روسيا، والاتحاد الأوربي لديه تبادل تجاري يبلغ نحو ثلاثمائة مليار دولار مع روسيا، ولكنه يشكل نسبة كبيرة لدى دول يعنيها، ولا يشكل سوى نسبة بسيطة في دول أخرى، ومع ذلك فالكلمة واحدة واللسان واحد، والموقف واحد، وهذا سر من أسرار النجاح الدائم الذي لابد من الوقوف بإعجاب عنده.
اتحاد الكلمة مجلبة للفائدة، أو درء لمفسدة أكبر، ولهذا فإن المواقف دائما تكون موحدة لكن بدرجات متفاوتة تفاوتا متقارباً، فالدول التي كانت قابعة تحت مظلة الاتحاد السوفيتي سابقا، هي الأكثر حزما، والأشد نقدا للتدخل الروسي، وقد يكون ذلك خشية عودة الماضي الذي لا يرغب الأغلب العودة إليه، وتليهم فرنسا التي تحاول أن تكون لديها الصوت الأكبر ارتفاعا عند اتخاذ الاتحاد الأوربي موقفا ما من قضية معينة، لكن المتضرر الأكبر، هي المانيا التي تحاول أن تكون أقل حدة لأنها الأكثر تضررا غير أن وحدة الكلمة تجعلها تسير في الركب في آخر القافلة وهي تدعو الله أن يجعل لهذه القضية مخرجا يعيد لها سابق عهدها من التعاون الاقتصادي مع روسيا الاتحادية، أو على أقل تقدير عدم خروج الموقف عن السيطرة حتى لا يؤدي إلى عواقب وخيمة.
المانيا والعالم مازالوا يتذكرون تلك الحربين العالميتين التي كانت المانيا طرفا فيها، وكان الشرق الأوربي هي نقطة انطلاقها وسببا في إضرامها، وهنا يعيد التاريخ نفسه، وتمنى من الله ألا يكون، فتشتعل النار من أصغر الشرر، حتى وإن كان الأمر مستلبدآ، لأن العالم بعقلائه يدركون أن ذلك نهاية العالم، وليس فيه منتصر وخاسر.
الغرب بمجمله اتخذ عقوبات جماعية، ولن يتخذ قرارا إلا بتوافق الجميع حتى وإن كان على مضض من البعض، فإن من المهم أن يكون هناك توافق، ومع التوافق تكون النتائج أفضل بكثير، وقد تتطور العقوبات من الأشخاص إلى الاقتصاد على بضائع قليلة، ثم تزداد اتساعا، لكنها لن تصل إلى تدخل عسكري مطلقا إلا إذا استمرت روسيا في ضم المزيد من الأراضي الأوكرانية وغير الأوكرانية، وهذا لا يمكن أن تقدم عليه روسيا لأنها تعرف أن ذلك نوع من الانتحار.
في خضم هذا التوحد الجماعي الغربي نجد أن هناك في عالمنا العربي عدم توافق في كثير من القضايا، وإن كانت قضايا أسهل بكثير مما حدث في أوكرانيا، وأن التوافق حولها لن يؤدي إلى إلحاق ضرر كبير بدولة بعينها وربما يجنبها بعض الضرر.
المشاكل في عالمنا العربي جل منابعها ثقافية مع وحدة الثقافة، وعاطفية مع تقارب المجتمع، وسياسية مع توافق المصالح السياسية، بينما المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية بين الدول العربية تكاد تكون محدودة، فلعل وحدة الموقع الغربي حيال قضاياه تكون مثالا لوحدة عالم نحو ما يعتريه من هموم.