مضى ما يقارب نصف عقد من الزمن ووزارة العمل تعد المواطنين بحلٍ نهائيٍ وناجعٍ لقضية استقدام العمالة المنزلية بمختلف أشكالها: وعودٌ تتلي وعودًا، مفاوضاتٌ تتبعها مفاوضاتٌ، أخبارٌ تتبعها أخبارٌ، تصريحاتٌ تفسرها تصريحاتٌ، وفودٌ تأتي ووفودٌ تغادر، كل ذلك ولم ير المواطن حتى كتابة هذا المقال أي نتائج ملموسة؛
حتى أن البعض شبه مفاوضات الاستقدام الماراثونية بمفاوضات.
فالناس، رغم كل السلبيات السابقة، تترحم على أساليب الاستقدام القديمة التي لم يعكر صفوها ألا تفشي ظاهرة الهروب التي يُحّمل بعض المواطنين جهات بعينها ومنها مكاتب الاستقدام، و وزارة العمل جزء من المسئولة عنها لتجفيفهما السوق بشكل رفع سعر العمالة في السوق السوداء بشكل مبالغ فيه جعل العمالة تفد لتهرب بأي ثمن. فأصبح الهروب القاعدة والانتظام الاستثناء، بل يلومنا أيضا سكان بعض الدول المجاورة لأننا، كما يدّعون، تسببنا بتجفيف سوق عمالتهم لمغريات رواتب العمالة المنفلتة لدينا.
وقد سبق وكتبت أن وزارة العمل، أعانها الله، تمارس مهاما في غاية التعقيد و التشابك ولكنها في ظاهرها تبدو بسيطة الملامح؛ والمواطن، نتيجة لدعم التوضيح ربما، لا يرى إلا ما هو ظاهر له وأمامه ومن خلال حاجته الماسة إما لسائق، أو عاملة منزلية، أو ممرضة تقوم على رعاية مريض أو مقعد في منزله. وهذه الحاجات طرأت على مجتمعنا كآثار جانبية للطفرات المتتابعة غير المنظمة التي مر بها، فالمرأة تعمل ولا تقود، و تخرج للعمل ولا يوجد دور حضانة تحتضن أطفالها، وكثير من الرجال لا زال ينظر لزوجته بالنظرة التقليدية على أنها طباخة، ومكوجية، ومنظفة حتى ولو كانت موظفة تعمل لساعات أكثر منه ويأخذ أحيانا نصف راتبها. كما أن ظروفاً اقتصادية مر بها المجتمع حديثًا قلصت الطبقة المتوسطة لحد كبير فأصبحت هناك طبقة ميسورة تتطلب عمالة منظمة بأي ثمن وأي عدد وتنظر لنوعية الخدمة لا سعرها، وهي التي ستسعدها خدمات المكاتب الحالية، وطبقة أخرى، هي غالبية الشعب، تريد عمالة بأسعار معقولة، أسعار لا تهدم ميزانيتها ولا تسبب لها العوز، أو على الأقل بأسعار ما قبل التجفيف و ما قبل محاولة التنظيم والمفاوضات الماراثونية. وتسعى هذه الطبقة للحصول على هذه العمالة بالسعر الذي تسطيع دفعه حتى ولو ترتب على ذلك الاتصال بمكاتب الاستقدام الخارجية مباشرة، بأسلوب الخلاص من الوسيط، وهو حق مشروع لها.
غالبية المواطنين، نتيجة للفوضى والغلاء الفاحش التي يشهدها عالم الاستقدام اليوم، أخذت تستفسر عن رسوم الاستقدام، في مصر، والإمارات، والبحرين، والكويت، وسنغافورة، واليمن وحتى السودان وتقارن هذه الأسعار بالأسعار المحلية، فتجد فأرقاً ضخماً ومذهلاً ولا تعرف له سببا. و قد يكون الاستقدام والفوضى المحيطة به أسوأ كارثة علاقات عامة بين وزارة العمل والمواطن حاليا لاسيما و أن المواطن يتحمل كلفاً إضافية للاستقدام عن أمثاله في الدول الخليجية الأخرى مثل رسوم الفيزا، والإقامة التي فرضت في سنوات الترشيد الحكومي وبقيت في أيام الرخاء وفوائض الميزانية، والمواطن لا يرى، أو يجهل الخدمات التي تقدم له مقابل هذه الرسوم، مما يزيد طينة تذمره بللا.
وزارة العمل مشكورة تحاول أيضاً أن تنقلنا إلى مصاف الدول الراقية جدا في حلولها، فتقدم حلولا مثالية لمشاكل يعتبرها الأخرون اعتيادية، حلول يجهل المواطن العادي حتى أبجدياتها، ثم قامت بحركة تصحيح ضخمة كلفت المواطنين مبالغ كبيرة، ولكن الكثير لم يلحظ لها أي نتائج إيجابية مباشرة عليه ربما لقصورٍ في إطلاعه عليها. وباختصار لا تجد أي فئة ممن لهم علاقة بحركة التصحيح الأخيرة ترى أنها استفادت منها: لا المقاول، ولا المواطن، ولا العامل. والفوضى تحولت من فوضى بلا إقامات إلى فوضى بإقامات. ورحل بضع مئة ألف متخلف منهم من كان يتمنى المغادرة لبقائه سنين طويلة بلا إقامة فتم الصفح عنه وتسفيره على حساب الدولة.
ومن أبجديات التفاوض، والتي لا يجهلها طالب السنة الأولى سياسة أو قانون، أن الأطراف ذات العلاقة يمثلها مفاوضون يدافعون عن مصالحها، وأن الأطراف المتفاوضة تمثل مصالحها هي لا مصالح أطراف ثالثة لا علاقة لها بهذه المصالح. كما أن تضارب المصالح عاملاً مخلاً قانونياً بمجريات التفاوض، فأنت لا تطلب عادة من مدعٍ عام أن يفاوض عن متهم، ولا تاجر أن يفاوض نيابة عن زبون. كما أن الدولة رعاها الله فعّلت مؤخراً نظاماً لحماية المنافسة للحد من احتكار مصالح الناس والتلاعب بها سواء سعرياً أو خدمياً. فلا يفهم الناس مثلاً لماذا يمثل مصالحهم في المفاوضات من لم يفوضونه بل من يمكن أن يكون خصما لهم لأنه طالب مصلحة منهم وعلى حسابهم؟ أي كيف يمثل مصالحهم مندوب ومالك لشركة استقدام؟ وقد يكون ذلك مقبولاً لو كان هذا الرجل، مع احترامي الكامل لشخصه، متميزاً، فريداً في ثقافته وإلمامه بالقوانين أو حتى باللغات الأجنبية. وحين تسري الإشاعة بأنه يفاوض من خلال مترجم، ولا يطلع الناس على ما كان يمثله من مواقف نيابة عنهم، فهم بلا شك سيرتابون من هذه المفاوضات.
ثم، كيف تفاوض هذه الدول المملكة بشروط تعجيزية لا تفرض على دول أخرى أصغر وأقل وأهمية من المملكة؟ أليس ذلك دليل على ضعفنا كطرف تفاوضي؟ أم أن هناك أمورا أخرى لا يعرفها المواطن مثلاً؟ فالناس تتداول إشاعات قد تكون غير صحيحة بأن شركات الاستقدام المحلية هي من يملك، أو هي شريكة في المكاتب الخارجية التي يفاوض عنها ممثلو الدول المصدرة للعمالة؟ وزادت شكوكهم عندما منع استقدام الأفراد مباشرة من الخارج، فلا بد من الشفافية وإيضاح الحقائق والأسباب كاملة للمواطنين فالوزارة وضعت لخدمتهم، ولا أحد يشك في أنها تنشد ذلك. ويفترض منطقيا أن شركات الاستقدام الكبرى تستطيع توفير عمالة أرخص بكثير مما يستطيع توفيره المواطن مباشرة!!
ولا يفهم الناس مثلاً لماذا أصرت الوزارة على قصر الاستقدام على شركات تعد على روؤس الأصابع تتحكم بالخدمة والسعر في وقت تؤكد فيه الدولة على الالتزام بقانون تشجيع المنافسة ومنع الاحتكار،علماً بأن هذه الشركات لم تقدم من تحسين الخدمة أو الأسعار ما يشفع لها حتى الاستمرار في تقديم الخدمات. فهي تأخذ من المواطن المضطر ما يتجاوز الثلاثين ألف ريال استقداماً و رواتبًا دفعة واحدة ومقدما، وهذا وضع تتمناه جميع البنوك وشركات التأمين. فلو وفرت شركة ما ألف فيزا فقط بهذا الأسلوب فهذا يعني ثلاثين مليون ريال تأخذها الشركة كاش لتستثمرها وتقسطها على العاملين، علما بأن هناك شائعات عن إضراب بعض العاملات عن العمل لتلكوء هذه الشركات في دفع رواتبهن.
والمواطن علاوة على ذلك يود معرفة المسوغ النظامي لمنعه الاستقدام مباشرة لنفسه، وهذا من أبسط حقوقه التي يكفلها النظام الأساسي للحكم بما لا يخول أي جهة مصادرته. فإذا دفع المواطن رسوم الفيزا والإقامة وتعاقد مع عامل واستقدمه حسب الشروط، فما دخل الوزارة في ذلك؟ وما مصلحتها من الدفع به قسراً لشركات الاستقدام؟ ونحن بالطبع نعرف أن الوزارة تسعى لمصلحة المواطن، ولكن عندما تكون كلفة الاستقدام لمصر ثلاثمائة دولار، والبحرين ستة آلاف ريال، والكويت 8 آلاف ريال لا يعقل أن تبلغ قيمة الاستقدام للمملكة عشرين ألفا!!! وما فائدة هذه الشركات الضخمة المحتكرة للاستقدام إن لم يكن لها دور في خفض التكاليف وتحسين الخدمات. فالشعب يا معالي الوزير ليسوا جميعا وزراء أو أصحاب شركات، ومعظمهم أحواله ميسورة مستورة يكابد الغلاء وارتفاع الرسوم من كل حدب وصوب، فليتك تكون لهم عون و تحميه ممن يريد أن يكون عليه فرعون، فخادم الحرمين يوجه، ويوصي في كل مناسبة بالعناية بالمواطن وتلمس حاجاته وتيسير أمور حياته، فليكن حفظه الله مثلكم الأعلى.