الوقت هو الحياة، الحياة كحدث من مبدأها حتَّى منتهاها، ويختلف الوقت عن الزمن الذي هو كوني وأبدي وسرمدي ويشكل إطار الوجود. ولكل حياة صيرورة ونهاية حتمية. ويوجد في جميع الثقافات أمثال لغوية كونية تؤكد قيمة الوقت وضرورة الحفاظ عليه،
ومنها تشبيه الوقت بالذهب لقيمته، أو السيف لحدته وتأثيره، وهي من الأمثال الأكثر شيوعًا لدى الشعوب المختلفة.
والوقت كما يَرَى كثير من علماء الإناسة والاجتماع لا يقاس بوحدات قياس موضوعية مستقلة كالساعات والأيام والسنوات فقط، وإنما يقاس مجازيًا وذهنيًّا بوحدات أحداثه التي تسرد لنا صيرورته. فالحياة سلسلة من الأحداث الحلوة والمرة، وهي ما نتذكره منها، ولولا الأحداث المهمة في حياتنا ما استطعنا تذكرها واسترجاعها. وعندما نتكلم عن حياتنا أو حياة العالم من حولنا فإننا نسرد أحداث تلك الحيوات. فالزمان والمكان هما الحدث، والحدث هو التاريخ.
هذه النظرة الفلسفية ليست جديدة وهي معروفة من قبل وربما من الأزل، ولكن تفهم هذه الفلسفة والاستفادة منها بشكل مستمر ويومي هو الذي يختلف من شعب وآخر وبين فرد وآخر.
فهناك من يدرك أهمية الوقت، ويعرف قيمته فيحاول أن يجعل حياته مليئة بالأحداث التي تضيف لوقته وحياته قيمة فعلية، وهناك من لا يعي قيمة الوقت فتأتي حياته خالية من الإنجازات والأحداث، فتستحيل حياته لحدث واحد طويل لا مفاصل فيها، وتتحول لروتين ممل ليس لأنَّه يرغب ذلك ولكنه لا يعرف غير ذلك. فاحترام الحياة بالعمل قيمة تختلف حولها الشعوب.
والنظرة للوقت هي العامل المحدد لتطوّر ونجاح الشعوب، فالشعوب المجددة لا تريد لحياتها أن تكون رتيبة بلا معنى ولذا فهي تعلي من قيمة التجديد والتغيير والمغامرة، وعكسهم شعوب تركز على قيمة الحفاظ على الماضي وتعلي من شأن الحفاظ عليه وتضفي عليه قيمة اجتماعيَّة وثقافية عليا أكثر من التجديد والتطلَّع للمستقبل فتكون كمن تعيش على تكرار أحداث الماضي بشكل متِّكرر رتيب. وقديمًا قيل لكل زمان دولة ورجال للتنبيه على سنة التغيّر بين الأجيال. وقد يكون ثمن الحفاظ على الماضي أعلى من ثمن السعي للتطوير والتجديد.
ويقال، والله أعلم، إن العقل البشري عندما يتلقى المنبهات ذاتها بشكل متِّكرر يختزنها ويختزن معها الاستجابات لها، وعندما تتكرر الاستجابات ذاتها فهي تتعزّز في الذاكرة لتتحول لفعل تلقائي يحفز صاحبه من الداخل دونما حاجة لمنبهات من الخارج للقيام بالفعل ذاته، ويبدأ العقل بتحفيز من الدماغ البحث عنها في المحيط الخارجي ويحصر الانتباه فيها، وقد يتطوّر ذلك إلى أن يثير العقل الجهاز العصبي لطلبها. وبالرغم من أن طبيعة العواطف البشرية مجهولة إلى حد كبير إلا أن بعض الباحثين يري أن هذه هي آلية تكون العواطف.
ويقال أيضًا: إن الدماغ يفرز هرمونًا يسمى الدوبامين يراه بعض العلماء هرمون السعادة والرضى، ويفرز عند تحقيق إشباع رغبات وتطلعات صاحبه: كالأكل، والنجاح، أو غير ذلك. ولكن الدوبامين يفرز حسب إرضاء رغبة الفرد سواء كانت حسنة أو سيئة، فلو كان يرتاح للتدخين أو للعنف أو السرقة أو مخدر ما أفرز دماغه هذا الهرمون فور إشباع هذه الرغبة. والدوبامين، كما يشاع طبيًّا، هو العامل الأول للإدمان إن إيجابًا أو سلبًا.
وحسب هذه النظرة، فالعقل بذواكره المختلفة، القصيرة والمتوسطة والطويلة، يتعامل مع كافة تفاصيل المؤثِّرات بدرجات متفاوتة. ونحن نقول في ثقافتنا من شب على شيء شاب عليه، والعلم في الصغر كالنقش في الحجر لأننا نعوّد صغارنا على أحداث مُعيَّنة تنحفر في أدمغتهم. ولذلك يمكن ملاحظة ما نسميه «طابع» الحياة لدى الشعوب المختلفة كل شعب حسب قيمه ونظرته للحياة والإنجاز والوقت، ويكون رضى الفرد حسب ما تعود عليه. فعندما يكون الإنسان منضبط المواعيد نقول عنه خواجة، وإذا كان احترام الموعد مرنًا ومطاطيًا وصفناه بأنّه موعد عربي. وعرف عن الألمان دقة العمل، وعن اليابانيين انضباطهم. وإذا صحت فرضية الدوبامين، فدوبامين الفرد الياباني، مثلاً، يزيد إفرازه عند وصوله للعمل في الموعد المحدّد، أما لدى العربي فيزيد عند تهربه منه.
فإدمان العقل المؤثِّرات ذاتها، والافتقار للتجديد، كان أول عامل للقضاء على المجتمعات الشيوعية مثلاً، التي أدمنت التأكيد على الالتزام بأنماط اجتماعيَّة جامدة لا تتغيّر، بالرغم من تأكيدها على قيم رائعة مثل المساواة الاقتصاديَّة، والمساواة في العمل بصرف النظر عن أهميته وقيمته. فهي جعلت الشعوب تدمن على الحكومات مما قتل روح الابتكار والتجديد.
وهناك، بالمقابل، مجتمعات أدمنت التغيير بحيث أصبح الاستقرار قيمة ثانوية لديها، فهي دائمة السعي للتغير والتجديد سواء في أساليب الحياة أو محتواها، حتَّى إنك تلحظ في هذه المجتمعات أحيانًا بعض التغيير العبثي والتغيير من أجل التغيير فقط. فالقضية هنا ليست في المجتمعات، بل في أفرادها الذي لا يطيقون الرتابة. وللرتابة، كما يشاع، علاقة طردية مع الخوف، وعكسية مع نمو روح المغامرة. ولذلك فنحن نتساءل مثلاً عن الأسباب التي تدفع بعض أفراد مجتمعات بعينها للمغامرة بالسفر لمجتمعات أو ثقافة غريبة تمامًا عنهم، وجديدة كليًّا عليهم حتَّى ولو كان في تجشم المخاطرة. بينما يدمن أفراد مجتمعات أخرى التردّد على أماكن بعينها بالرغم من عدم وجود أيّ جديد فيها.
ولو أجلنا النظر في مجتمعنا بكافة شرائحه لألفينا الإدمان السلوكي متفشيًا بين كافة شرائح المجتمع وطبقاته، شبابًا وشيبًا، رجالاً ونساءً. فالبعض ينقاد للاستراحة دونما شعور يلتقي بالأفراد ذاتهم ويكرّر الأحاديث والأحداث ذاتها، والبعض الآخر لديه اجتماع دوري مع شلة لا تتغيَّر واجتماعات نمطية تفضي إلى نوع من الإدمان، فهل لإفراز الدوبامين والإدمان السلوكي دور في ذلك؟ هل له دور في إدمان بعض الشباب التفحيط؟ أو إدمانهم الألعاب الإليكترونية؟ هل من يحرصون على مشاهدة المباريات ويتسمرون حول التلفاز ساعات قبل بدايتها، وساعات بعد نهايتها مدمنون أم لا؟
هذا الجانب السلوكي المهم معروف لدى كثير من خبراء الدعاية والإعلان ويستثمرونه بشكل لا يخلو من الخبث أحيانًا في برامج الدعاية وآليات التسويق التي تستند على مبادئ مشابهة ترسَّخ لدى الأفراد التعود على منتج ما، وبعد فترة من التعود يبدأ الفرد بالاعتماد على المنتج بشكل إدماني، ويسعى هو للبحث عنه حتَّى ولو بسعر أعلى. وقد تكون مطاعم الكبسة، والشاورمة، والفول مثلاً تعرف أن هناك إدمانًا لدى قطاعات كبيرة من المجتمع عليها ولذا لا تهتم بالتطوير أو حتَّى النظافة.
لكن الأهم هو أن هذا الجانب مغفل في سياسات التَّعليم التي تكرّس في بعض جوانبها روتين ممل ينفر الطلاب ويعزّز لديهم أنماط تعليم تعتمد على التلقين والاستذكار تعزّز لديهم تدريجيًّا النفور من أيّ تعليم يعتمد التفكير والابتكار، فتجد الغالبية منهم تنظر لمؤسسات التَّعليم بالنظرة ذاتها التي تنظر بها للاستراحات والنشاطات والتجمعات الدورية، ارتيادها عادة مكرّرة لا جديد فيها. ومن هنا تتضح أهمية التجديد في كافة مناحي الحياة حتَّى لا يستهلك الأفراد والمجتمع سلوكهم في أنماط إدمانية تسهم في تفشي الكسل والاستهتار وانعدام الطموح وغير ذلك من أشكال عدم المبالاة بالوقت وأهميته.
فاستمرار النشاط الاجتماعي مرهون بقدرته على التجدّد والتجديد.