تفاعلت القضية الأوكرانية بشكل متسارع وغريب في الأسبوع الفائت، وعلى وجه الخصوص بعد هروب رئيسها المنتخب فيكتور يانوكوفيتش إثر اقتحام قصره في كييف، ودفع روسيا لجيشها للتدخل في كريميا (القرم) الإقليم الجنوبي الشرقي في أوكرانيا...
...ومازالت هذه الأزمة تلقي بظلالها على أجواء السياسة العالميَّة بإصرار كل طرف على موقفه. ولعل من المفيد تسليط الضوء على خلفيات هذه الأزمة لأنّها ليست وليدة اليوم كما يصور الإعلام وخصوصًا الغربي، ولأنها تظهر أهمية اللغة والثقافة في تشكيل خطوط التماس السياسة. وخطورة الأزمة الأوكرانية تتمثَّل بالنسبة لروسيا والعالم في أنها قد تتكرَّر في مناطق أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة التي تشكّل العوامل الإثنية واللغوية قنابل موقوتة فيها مما دفع روسيا متصلبة حيل كثير من المسائل في سياستها الخارجيَّة لإبعاد أيّ تدخل مستقبلي محتمل في مناطق نفوذها التاريخية. فقد عمّم السوفييت اللغة الروسية على مختلف الجمهوريات التابعة لهم عند تكوين الاتحاد السوفيتي، وأنزل من قيمة اللغات القوميات الأخرى بحجة أنها أدوات لترسيخ الشوفينية القومية التي تعارض التوجُّه الأممي الأشتراكي (الشيوعي) الذي يهدف لتوحيد الطبقات العاملة في العالم في نموج يقضي على الرأسماليَّة التي تستغلهم.
وأوكرانيا ليست، كما يعتقد كثير من المتابعين، كيانًا موحدًا، بل هي مقسمة على أساس إثني ولغوي، وبها أقلِّيات وإثنيات مُتعدِّدة: روس، أوركنيون، تتار، بلغار، ألمان، بولنديون الخ، غير أنها تنازعها قوميتان أساسيتان: الروس، والأوكران. وقد استقر الروس في أوكرانيا منذ قرون قديمة (1650م) واستقروا في المانطق الشرقية منها في منطقة سموها «روسيا الجديدة»، وفي القرم، وهم يشكِّلون ثلث السكان تقريبًا. وفي هذه المناطق يوجد أراضٍ زراعيَّة خصبة وأنهار عدّة. واللغة الروسية والأكروانية كلاهما سلافي أحدهما سلافية شرقية والأخرى سلافية غربية وافترقتا بين القرنين 14-16 وتشكّل المفردات البيلا روسية 70 في المئة من اللغة الأوكرانية، والروسي والأوكراني يستطيعان فهم لغات بعضهما البعض إلى حدٍ كبيرٍ.
وقد منعت روسيا قبيل الثورة البلشفية أيّ من 1804- إلى الثورة في 1917م استخدام اللغة الأوكرانية في روسيا بما في ذلك الأقاليم الروسية الجنوبيَّة التي تشكّل الإقليم الشرقي والشرقي الجنوبي من أوكرانيا حاليًّا، وهي أقاليم روسية أساسًا ونسبة السكان الروس فيها تتجاوز 75 في المئة. والغريب أنَّه بعد قيام الثورة البلشفية وفي عام 1922م أعلن الاتحاد السوفيتي ضم الجزء الشرقي (الروسي) لجمهورية أوكرانيا لجزئها الغربي وشكَّلت جمهورية أوكرانيا، وظهرت تسمية الروساك أيّ الروس الأوكرانيون. وعمومًا هناك تزاوج كبير بين الروس في الأقاليم الشرقية والأوكرانيين في الأقاليم الغربية.
وما نراه اليوم هو نتيجة استقلال أكرانيا من الاتحاد السوفيتي في 24 أغسطس 1991م بإعلان ليونيد كوشما زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني استقلال أوكرانيا، وكوشما أوكراني روسي، والأوكرانيون الروس يشكِّلون معظم الطبقة التجاريَّة والسياسيَّة في أوكرانيا. تبع ذلك حركة قومية كبيرة دفعت كوشماك لعدم الترشح في عام 2004م وأجريت انتخابات لمرتين ألغيت الأولى منها بسبب الفساد، واتهمت روسيا بالتأثير عليها وفاز بالانتخابات الرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش من الإقليم الشرقي على منافسه فيكتور ياشنكو بأغلبية ضئيلة. أما غالبية السكان في الأقاليم الأوكرانية ممن لهم صلات قرابة بالروس فهم من المتأرجحين في التصويت مما منح يانوكوفيتش الفرصة في الفوز.
وتقع العاصمة كييف ومعظم ما نطلق عليه اليوم أوكرانيا في الإقليم الشرقي، ويسكنها أوكرانيون غير روس ولذا فقد اتخذوا قرارًا بإلغاء المدارس الروسية وقلّصوا عددها مما يقارب 4500 إلى عدد لا يتجاوز أصابع اليد، ثمَّ أخذ القوميون المتطرفون بمضايقة المواطنون من أصل روسي الذين يقطنون في الأقاليم الشرقية مما دفع الكثير منهم للهجرة إما شرقًا أو للخارج. وطالب قوميون معتدلون ومتطرفون بإلغاء تعليم اللغة الروسية كلغة ثانية في المدارس الأوكرانية. وتَمَّ احراق المركز الثقافي في مدينة ليفيف في الشرق، ولذا فلدينا اليوم بلد منقسم لغويًّا إلى إقليمين: الشرق الروسي ويتكلَّم الروسية، والغرب الأوكراني ويتكلَّم الأوكرانية. وفي عام 2008 م تعرَّضت أوكرانيا لأزمة اقتصاديَّة خانقة فقدت فيها أكثر من 20 في المئة من دخلها القومي مما زاد من التطرف في أوكرانيا.
استمرت التجاذبات العرقية في أوكرانيا على خلفية الأزمات الاقتصاديَّة وتفشي الفساد حتى انتخابات 2010م بين يانوكفيتش ويوليا توموشينكو زعيمة حزب «كل أوكرانيا أرض الأجداد» القومي، وزعيمة ما سمى بالثورة البرتقالية، وهي سيدة أعمال وأوكرانية قومية من الغرب الأوكراني حيث الأغلبية. ودارت الانتخابات حول موضوعين أساسيين: الانضمام للاتحاد الأوروبي وهو الشعار الرئيس لتومشينكو، والانضمام لاتحاد دول الاتحاد السوفيتي السابق وهو ما دعا له يانوكوفيتش. وفاز يانكوفيتش بدعم من روسيا في الانتخابات وشكّك الأوكرانيون بنزاهتها. لكن تومشينكو فازت بأغلبية كبيرة في الانتخابات البرلمانية وأصبحت رئيسًا لوزراء أوكرانيا، فأصبحت أوكرانيا فعليًّا حصانًا برأسين أحدهما للشرق ويمثّله الرئيس، والآخر للغرب وتمثّله رئيسة الوزراء، ومع ذلك تفاقم الاستقطاب السياسي مما حدا بيانوكوفيتش إلى سجن توموشينكو بعد عام 2011م بتهمة الاختلاس فوضح أن التجاذب السياسي لا بد وأن يتحوّل لصراع عرقي على أساس لغوي، فاحرق في نهاية العام المركز الثقافي الروسي في ثاني أكبر مدينة في الإقليم الشرقي «ليفييف»، وزاد تطرف الأحزاب القومية واشتعلت المظاهرات في كييف العاصمة التي تتبع للجانب الغربي.
بالطبع لم يتوقف الاتحاد الأوروبي عن التدخل في أوكرانيا لدعم موتشينكو التي ترفع رأية الانضمام إليه، فعين مجموعة من المحامين لمراجعة التهم الموجهة لها، ثمَّ تَمَّ الضغط الشعبي لمراجعة الإجراءات القضائية واستقلال القضاء فيما عرف «بثورة الميدان» والتي تمخضت عن إطلاق سراحها، ثمَّ مهاجمة قصر يانوكفيتش في كييف، وتلا ذلك هروبه إلى روسيا، ثمَّ إلقاؤه البيان الأخير متمسكًا بمنصبه كرئيس ومتهمًا خصومه بالفاشية النازية، وتمسكت روسيا أيْضًا بشرعيته وأصرت عليها، وهذا ما صعد الخلاف الدولي حول أوكرانيا.
وكان من المتوقع أن يحول التدخل الروسي في أوكرانيا من استخباراتي إلى عسكري، وهذا أمر تعرفه الدول الغربية وربما تكون دفعت إليه، وتَمَّ تحريك الجيش الروسي فعلاً للجهة الشرقية من أوكرانيا حيث لا تزال نصب لينين مشيدة كرمز لولائه لروسيا، ودعم الأسطول الروسي في مواني القرم على البحر الأسود وخصوصًا في سيباستبول، ونزل 2000 مظلي في عاصمة القرم سيفروبول، ثمَّ تلا ذلك بيانات قوية من روسيا دعمًا ليانكوفيتش، والإعلان عن نية إجراء استفتاء في الإقليم الشرقي بعد شهر حول الاستمرار في البقاء كجزء من أوكرانيا أو الانفصال بعد شهر، ثمَّ قطع الغاز عن كييف والجانب الشرقي وليس عن القرم. وجميع المؤشرات تدل أن هناك انقسامًا مؤكدًا قادمًا في أوكرانيا بين القسم الشرقي والجنوبي الذي يسكنه روس ويتكلمون الروسية، والشرق الأوكراني الذي يضم كييف ويتكلَّم اللغة الأوكرانية، أيّ أن ما تَمَّ دمجه في عام 1922م يتم فصله اليوم.
وفي حال نجحت روسيا في ذلك ولم تتم مقاومتها، أو لم يترتَّب على ذلك حرب أوكرانية روسية، فربما تطرح روسيا بقوة السيناريو الأوكراني لحلِّ الأزمة السورية ليس على أساس عرقي ولغوي بل على أساس طائفي، يستقل فيه العلويون بدولتهم في الساحل، ويترك للسنّة بقية أقاليم سوريا المهدمة والمدمرة لينشغلوا ببنائها. والمحزن أن بوتين الذي يتدخل لإنقاذ الروس في أوكرانيا يحمي إبادة المسلمين السنّة في سوريا.