أسوأ ما يمكن الحديث عنه هذه الأيام هو السياسة، لكن ما يحدث في بلد عربي مثل ليبيا ينبه الغافلين في أي دولة عربية من تلك الدول التي تتصارع فيها تيارات المناطقية والطائفية والانتماءات الإيديولوجية التي أصبحت - للأسف - تسمو لدى البعض فوق مستوى «الانتماء الوطني». هذه الصراعات المريرة والخطيرة تجرنا إلى الحديث في الشأن السياسي جراً رغم أنه أصبح مكروراً ومملاً ولا جديد فيه مما يمكن إضافته بشكل مفيد، بل هو كله شرٌ من أوله حتى آخره.
ما يحدث في ليبيا يختلف عما يحدث في العراق ولبنان واقرب ما يكون إلى ما يحدث في الجنوب اليمني والشمال اليمني. إنها المناطقية البغيضة المأفونة حينما تستبد منطقةٌ ما وتستأثر بعملية صنع القرار وبالمكتسبات التنموية على حساب منطقة او مناطق أخرى من الوطن!
عندما يحدث ذلك، تطفو المفاهيم والانتماءات الضيقة ويصبح «الوطن» هو آخر ما يفكر فيه المناطقيون الذين يستطيعون تقديم الف مسوغ ومسوغ لتبرير فكرهم المناطقي.
في مثل هذه الأجواء الملوثة المسمومة يأتي من يعزف على وتر المناطقية بنبرة فوقية استعلائية فيستثير كوامن النزعة المناطقية المتجذرة في نفوس بعض أبناء المناطق الأخرى. وعندما تسوء النوايا ليس هناك ما هو أسهل من تهييج الناس وإلهاب المشاعر من خلال توظيف مفاهيم مثل العدالة الاجتماعية والتنمية غير المتوازنة وغير ذلك من الحق الذي قد يراد به باطل. وهنا ينعكس السحر على الساحر، وتتعرض السفينة التي تحمل الجميع إلى الغرق.
هذا، فيما يبدو ما يحدث في ليبيا. فعلى مدى سنوات كان هناك استبداد مناطقي في ذلك البلد الذي كان يحكمه بقبضة حديدية نظامٌ بوليسي قبلي مناطقي. وعندما انهار ذلك النظام، وجدت الانتماءات المناطقية متنفساً وسط الفوضى العارمة التي خلَّفها تدخل «النيتو».
وهكذا رأينا ما يشبه الدويلات داخل الدولة الواحدة، وصارت كل دويلة تتصرف كما لو كانت تتمتع بالاستقلال السياسي وتبرم اتفاقيات تصدير النفط دون العودة إلى الحكومة المركزية! هذا هو الثمن الفادح الذي تدفعه ليبيا اليوم بسبب السياسات المناطقية والقبلية التي انتهجها القذافي بعد أن صب عليها من وابل هلوساته وضلالاته الفكرية وتنظيراته الخرقاء.
ما يحدث في ليبيا، إذن، هو درسٌ لكل الدول العربية مفاده أن المناطقية والطائفية والتحزبات الإيديولوجية شرٌ مستطير، وإنَّ على كل وطنيٍ مخلص مكافحتها لكي يبقى الوطن ساحة أمان وتقدم وخير لكل المواطنين.