السلوك الرشيد للمستهلك هو بمثابة فرضية أساسية في الأدبيات الاقتصادية لأن المستهلك، في الأساس، يريد الحصول على أكبر إشباع ممكن باستخدام أقل التكاليف مما يستوجب «الرشد» في السلوك. لكن هل هذا ما يحدث دائماً، خاصة في أسواقنا؟
هناك دراسات جادة جداً ومعمقة حول مدى «واقعية» مثل هذه الفرضيات، لكني وجدت أن من الطريف الكتابة عن حكاية سمعتها من شخص ذهب للتسوق في أحد الأسواق التي تبيع الجوالات وتجهيزاتها المختلفة في مدينة الرياض!
يقول إنه ذهب لشراء شاحن لجوال من ماركة محددة، فوجد أنواعاً كثيرة وبأسعار مختلفة، وكان يريد ماركة محددة أصلية غير مقلدة، فعثر على ما يريد لدى اكثر من محل في السوق. نفس البضاعة، ونفس التغليف، ونفس علامات الجودة الملصقة على الغلاف، ونفس مدة الضمان.
لكن الفرق هو أنه وجد الأسعار «المعلنة» تتفاوت من 150 ريالاً إلى 85 ريالاً دون أن تكون هناك أدنى مبررات للتفاوت في السعر.
فالبضاعة متطابقة، وتأكيدات البائعين متطابقة، وحتى الأيمان الغليظة التي أطلقوها للتأكيد على أن بضاعتهم غير مقلدة تكاد تكون متطابقة!!
وبدافع من الفضول واصل الرجل جولته الاستطلاعية فمسح معظم المحلات التي في السوق، وهي بحدود خمسين محلاً، فحصل أخيراً على الشاحن بالمواصفات السابقة بمبلغ ستين ريالاً!!
قلت لأخينا الذي روى الحكاية: لعل الأمر يتعلق باختلاف جودة البضاعة من محل لآخر في سوق يغص بالبضاعة المقلدة، فأكد لي أنه كان منتبهاً لهذا الأمر، وأنه تأكد أن المسألة من أولها إلى آخرها لا تعدو أن تكون استغلالاً من الباعة وغفلة من المشترين وضعفاً من الجهات الرقابية!
أما عن استغلال الباعة وعجز الجهات الرقابية عن تغطية سوق كبير جداً مثل السوق السعودي فهما أمران واردان، ولكن كيف يمكن أن يشتري المستهلكون نفس البضاعة من محلات متلاصقة بهذا المستوى المتفاوت جداً من الأسعار؟! أين ذهبت فرضية «المستهلك الرشيد»؟! هل هي شيء ندرسه في الاقتصاد ولا نجده في الأسواق؟! أم أن «أسواقنا غير»؟!
سيقودنا هذا الكلام إلى نقاش طويل لو دخل زملاؤنا الاقتصاديون حلبة النقاش، لكنني أكتفي بالتأكيد على أهمية دور المستهلك ووعيه وحسن اختياره والاستفادة من المعلومات المتاحة والتنوع الذي تتميز به الأسواق المفتوحة وما تقدمه من بدائل، وعدم التسرع في الشراء من أول عرض، ففي أسواقنا التي هي «غير» توجد مساحة واسعة للمفاصلة والمفاوضة والمساومة وليس أقرب مسافة بين نقطتين في أسواقنا هي الخط المستقيم!.