سياسات دول الخليج يؤثِّر بعضها على بعض، من أوضح الشواهد على ذلك: حرب الخليج. فسياسة الكويت مع العراق، أدت إلى أن يخوض الخليج كله الحرب، وإن كان الحمل الأكبر قد وقع - وسيقع- على السعودية. فلا يصح لدولة خليجية أن تنفرد بسياسة مستقلة يكون من شأنها التأثير سلباً على الدول الأخرى. والكتابة في السياسة لا تعدو أن تكون تخرّصاً، فلا أحد يعلم حقيقة تفاصيل ما وراء الأبواب.
ولكن ما يجب التأكيد عليه أنه مهما وصل مستوى الظن والتخرّص في الكتابة السياسية، فإنه يجب أن لا يصل إلى الكليشة المعهودة التي تدور حول اتهامات الخيانة والعمالة، وبأن قطر تنفذ أجندة غربية أو أمريكية ونحو ذلك من الكتابات الساذجة. وكذلك فليس بصحيح بأن النزاع الحالي بين قطر والخليج بسبب وضع مصر فقط، وإن حاول البعض من الجانب القطري اختزاله وتبسيطه في هذا، فالنزاع له عقود ومستمر وهذا مما أدى إلى حال اليوم.
وقد أشار بعض الكتَّاب إلى خلافات قديمة بين السعودية وقطر تعود إلى حرب الخليج، وهذا في رأيي لا علاقة له بالنزاع القائم حالياً. فإن كانت هناك خلافات بين السعودية وقطر آنذاك، فإنها لا تتجاوز الخلافات الطبيعية بين الجيران والأشقاء ولها أسبابها المعقولة والمفهومة (كموضوع خلاف الجزر بين قطر والبحرين مثلاً.
فلم يكن له أن يتجاوز محله ليصل إلى شقاق ونزاع للسعودية). إن الذي أوصلنا إلى وضع اليوم هو افتعال قطر الحبيبة - خلال عقدين من الزمن- للنزاعات مع السعودية والخليج من غير أسباب معقولة أو مبررة، وأدق ما توصف هذه السياسة بأنها تحرّشات قطرية بالسعودية لا مبرر لها إلا لدفع عقدة الجارة الكبرى. فقد كانت قطر قديماً تحتذي بسياسات السعودية الداخلية والخارجية صغيرها وكبيرها، حتى لون التاكسي وسيارات الشرطة والمرور، فضلاً عن القضاء والفتوى والمذهب والتحالفات الخارجية. وقد كان هذا بخيار منها لا فرضاً عليها. وبعد ميلاد قطر الشابة لم تستطع قطر نفسياً تجاوز تلك الفترة وتجاوز أحداث المرحلة السياسية الانتقالية المؤقتة التي تبعتها.
هناك من الأبناء من يحب الاستقلال عن آبائهم وعوائلهم، ويلاحظ هذا بكثرة في العوائل التجارية مثلاً. فمن يحمل هذه النزعة من الأبناء، قد يكون باراً وقد يكون عاقاً. فالابن البار يثبت استقلاليته عن عائلته أوأبيه بتحقيق نجحات بعيدة عن إيذاء عائلته ومنافستهم، لا تزيده وعائلته إلا شرفاً وقدراً. والابن العاق أو المعقد نفسياً يعتقد أن الاستقلالية لا تكون إلا بأذية أهله ومنافستهم والتخريب عليهم، وهذا عادة ما يعود عقوقه وعقده النفسية عليه.
فكل ما فعلته وتفعله قطر لا تتجاوز خلفياته وأسبابه حول إثباتية قطر لجيرانها عموماً وللسعودية خصوصاً بإمكانيتها الاعتماد على نفسها، بل ولمعارضتها للسعودية وللخليج بمشاكسته إقليمياً ودولياً. هذا كله على الرغم من أن السعودية لم تفرض نفسها على قطر قديماً، بل قطر من اختارت الاقتداء بها.
وشاهد ذلك، وحسب ما أذيع في مذكّرات حرب الخليج الثانية، فإنه بعد إخراج السعودية للقوات الأمريكية، قامت قطر بتقديم عرضها السخي لأمريكا بإقامة قواعدها على الأراضي القطرية.
ولكن أمريكا لم تقبل بعرض قطر السخي إلا بعد استئذان السعودية، وأن الرئيس كلينتون قد طلب التأكد من أن هذا لن يغضب السعودية.
وقد كان جواب السعودية صريحاً وواضحاً بأن قطر دولة مستقلة ولها سيادتها الكاملة على أراضيها.
ومن بعد ذلك بدأت قطر حملات المشاكسة التي وصلت أحياناً للتهور.
فلا أحد يعتقد بأن قطر تريد الإخلال بأمن السعودية أو دول الخليج، ولكن ما تفعله قد يؤدي إلى ذلك، إذا لم يُؤخذ بجدية من الجانب السعودي والخليجي.
والتعاند عادة ما يبدأ بسيطاً ثم يزداد، وهكذا حصل مع قطر. فتوسعت قطر في خصوماتها لجيرانها حتى أصبحت معزولة.
فعلاقاتها وتجاراتها ومودتها وهواها قد أصبح مع العالم الخارجي البعيد عنها. فأصبحت معزولة عن جيرانها، أشبه ما تكون بحالة عزلة إسرائيل بين العرب.
ومع إيماني بأن سياسات قطر غير المبررة لا تقصد الإخلال بأمن السعودية أو الخليج، وأنها ما هي إلا حكاية زئير لدفع عقدة صغر حجمها وسكانها، وتبعيتها القديمة للسعودية، إلا أني أعتقد أن قطر لم تستثن احتمالية أن تؤدي تحرشاتها إلى إخلال أمن جيرانها. فكأن لسان حالها يقول بقول أبي سفيان في قتلى أحد «في القوم مُثلة لم أمر بها ولم تسؤني».
ولكن هل تنبهّ المستشارون السياسيون لدى قطر بأن اتكاء قطر ومراهنتها على سهولة إدارة الداخل عندها - بسبب قلة عددهم وصغر مساحتهم وكثرة أموالهم- هو سيف ذو حدين تستطيع الدول الخليجية قلب حده لو اتبعت نفس أساليب قطر التحرشية.
فالسهام التي ترميها قطر على السعودية والخليج منذ عقدين من الزمن، تضيع في سعة السعودية وسماحتها. ولكن لو رمت السعودية جادة بسهم واحد في تجاه قطر فلن يضيع، وسيكون هو السهم الأول والأخير. ولعل هذا من أهم أسباب صبر السعودية على قطر.
كانت قطر وما زالت - بشهامة أهلها وكرمهم ونبلهم- اللؤلؤة في تاج الخليج، ولا يقدّر شهامة القطريين ومرؤوتهم أحد كأهل الخليج، وليس الغرب والشرق. فمتى تتوقف قطر عن مشاغبة أهلها المحبين لها، وتركّز جهودها وأموالها لتكون اللؤلؤة المضيئة للخليج، والمثال الذي يُحتذى به لا المثال الذي يُحذّر منه.
ولعل في دبي شاهد هنا. فلا يُنكر أحد أن دبي كانت المُلهم لانطلاقة التطور في الخليج. فمَثَلها ومَثل قطر فيما سيكتبه التاريخ عنهما إن لم تتدارك قطر مواقفها، كمثل ما كتبه التاريخ عن سنغافورة وليبيا القذافي.