كثر الكلام مؤخرًا عن الحوادث، الحوادث التي أودت بحياة الكثير من المواطنين. وأخذت الناس تشبه بعض السيارات في الطرق بالقنابل الموقوتة، والشوارع بساحات الصراع، وأسلوب قيادة بعض المتهورين بأفلام الرعب، والكثير منا أصبح يؤجل الخروج لحاجات له؛ تجنباً للقيادة في شوارع تفتقد القيادة فيها لأدنى حدود اللياقة والنظام.
وإذا أدركنا أن بعض رجال المرور ليسوا إلا مواطنين من جملة من يقود سيارته كيفما اتفق خارج ساعات الخدمة، بل إنهم احيانا يتعمدون عدم التقيد بالنظام لأنه هو النظام، حينها نعرف أن المواطن رجل المرور لا يرى أي غرابة أو خطأ في عدم انتظام السير أمامه من قبل سائقين آخرين، ويرى دوره على أنه فقط القيام بالواجب إذا دعي إليه ممن يرأسونه، أو لقفل الشارع من أجل حملات التفتيش. ولذا علينا التوقف عن لوم رجل المرور لأنه يحمل العقلية ذاتها التي يحملها السائق العادي، وربما يجهل الأنظمة المرورية بالقدر ذاته.
فما الذي يجعل الحركة في شوارعنا أشبه بفيلم تمت مضاعفة سرعته، وشوارعنا اشبه بساحات التصادم في مدن الملاهي؟ ما الذي يجعل بعض السائقين يقود وكأنه في «رالي» ليذهب لمقهى أو ليشتري كبسة أو صحن فول من مطعم؟ ما الذي يدفع مواطنا محترما أو حتى ملتزما لأنْ يقود سيارته بشكل يفتقد لأدنى حدود الأدب واللياقة، أو يسبب الأذى والمضايقة لهم في الطريق؟ وما الذي يجعل ذلك حالاً دائماً لا مؤقتاً؟ الإجابة على مثل هذه التساؤلات تحتاج لدراسة وتحليل معمق في مجال علم النفس الاجتماعي، لأنها ظواهر متفشية ودائمة لا تخبو ولا تضعف وتظل صامدة أمام جميع حملات التوعية؟ ولكن لا مانع لمحاولة فهم هذه الظاهرة القاتلة بنوع من الاختزال التشخيصي.
ويحيل علماء النفس الاجتماعي مثل هذه الظواهر للذهنية التي تتحكم وتتمكن في ذهنية مجتمع ما أو في ذهنية قطاع أو فئات من أفراده، على شكل من أشكال العقل الجمعي. فالسلوك الظاهر يصدر إما عن تفكير متعمد، أو عن دوافع وعواطف تتحكم في الفرد دونما وعي منه. والقيادة باستهتار وتهور سلوك وموقف من الآخر ومن المجتمع فما هي الدوافع الخفية له؟.
أولاً: العامل العقلي: وهو تعود الفرد على عيش حياته بشكل فوضوي لا منطقي بعيداً عن الضوابط الذاتية التي لم تزرعها فيه التربية ولم يغذها التعليم. فالذي يقود سيارته بتهور وفوضوية، ولا يفقه أن هناك نظماً وضوابط للقيادة هو الفرد ذاته الذي يلقي بقمامته في الشارع، هو الذي يترك المخلفات والأكياس النايلون في كل مكان خلفه، وهو الشخص ذاته الذي تعود على الأكل والنهوض وترك السفرة لغيره ليحملها بعده، وهو الذي يلقي بملابسه في كل ركن في غرفته. وأخيراً هو الشخص الذي تحكمه العادات لا الأخلاق، لا يحترم إلا من يعرفه أومن له صلة قرابة به.
ثانياً: العامل الأخلاقي: حيث يعتمد تكوين الفرد الأخلاقي لدينا على الدين فقط وعلى مخافة الله، وهذا شيء جميل ورائع، ولكن هذا التكوين لا يشتمل على فقه احترام الآخر أو التعاطف معهم، أو القدرة على تخيل نفسه مكانهم. ولذا فهو يتصرف وكأنما الشارع له وحده، وبما أنه أدى واجبه تجاه ربه يستطيع أن يفعل أي شيء آخر تجاه عباده لا يخالفه.
ثالثاً: العامل الاقتصادي: وهذا يتعلق بالشباب أكثر من غيرهم، وقد يشمل بعض الكبار ممن يقودون سيارات ليست لهم. فنحن نشتري لشبابنا السيارات التي يرغبونها في سن مبكرة، وفي عنفوان مراهقتهم وشبابهم قبل أن يتعلموا معنى الحياة والكدح، وقبل أن يعوا بشكل كامل مسئولياتهم تجاه مجتمعهم وتجاه الآخرين، ولذا فهم لا يُقدرون قيمتها وقد يحاولون اثبات رجولتهم ولفت نظر الآخرين بقيادتهم لها بشكل استعراضي.
رابعاً: العامل الاجتماعي: وهو أننا نفتقد حس الانتماء للمجتمع بشكل صحيح، وانتماؤنا دائما لمكونات اجتماعية اصغر بكثير من المجتمع مثل الأسرة، والأسرة الممتدة، القبيلة، المنطقة، الفئة الفكرية، ولكنها تقصر في مجموعها عن التفكير في المجتمع ككل، فالبعض لا يحترم من يراه عضو آخر في المجتمع لا ينتمي للدوائر الاجتماعية الأصغر التي ينتمي لها، ولذا فهو لا يحترم حق الآخر في الطريق ما دام لا يعرفه.
خامساً: العامل النفسي: وهو ما يسميه علماء النفس بالضغط النفسي، وهو إما أن يكون آنياً أو متراكماً مستديماً. وهو نسبي ويتفاوت في شدته من شخص لآخر. ومن سمات الشخصية التي تعاني من الضغط (الشخصية المضغوطة) التسرع، والغضب، وعدم الصبر. والفرد المضغوط يعكس ذلك في قيادته، فقدرته على تحمل الانتظار تكاد تكون معدومة.
سادساً: العامل الثقافي: وهو جهل البعض بثقافة النظام والقانون، أو علمهم بها وجهلهم بضرورة الالتزام بها. ويرى بعض علماء القانون الاجتماعي، الذين يَعنون بمعايير السلوك في مجتمع ما، أن نظرة الفرد وموقفه من الأنظمة لا يرتبط بنظام بعينة، ولكنه يأخذ طابعاً كلياً، جشتالت، فالمواطن الذي يعتقد أن بعض الأنظمة أو القوانين لا تنصفه، أو انها لا تطبق بشكل عادل وعلى الجميع، يعمم ذلك على باقي الأنظمة، ولذلك فهو لا يحترم إلا الأنظمة التي تُفرض عليه فرضاً.
هذه في تقدير الكاتب بعض العوامل التي تؤثر في السلوك القيادي المنحرف لبعض أفراد المجتمع الذين يحيلون شوارعنا الفسيحة إلى مسارات ضيقة مختنقة وساحات للاقتتال حول حق المرور بشكل لا يحترم أي عرف أو اخلاق.
وفي الختام أود أن أذكر بحثا ذاع واشتهر قبل عقود لعالم اللغة الاجتماعي بازيل بيرنشتين، الذي أثبت أن أطفال الأسر الميسورة، التي تكون بيوتهم مرتبة، وبها مفردات كثيرة منظمة بشكل دقيق، وتمت تربيتهم على احترام النظام والوقت يكون فكرهم ولغتهم وسلوكهم منظماً. أما أطفال الأسر الفقيرة التي لا يوجد في بيوتهم ما يستحق التنظيم، ويحظى الشارع بنصيب الأسد في تنمية أبنائهم فلغتهم تميل للاختزال والتفكك، وفكرهم لعدم الترابط. ولو حضر بيرنشتين لمجتمعنا لاهتم بدراسة الفوضى لدى الفقير والميسر معا، ولاهتم بظاهرة الاعتماد على الخدم في تنظيم كل ما له علاقة بالأسرة والمنزل والمعاش. فالفوضى تترك لهم ليرتبوها، ولخلص أن لذلك انعكاسات خطيرة على سلوكنا. ونحن نأتي من الخارج بسائقين منتظمين في بلادهم ونعلمهم الفوضى هنا. واعتقد أن علينا أن ننتظر جيلاً من السيارات بنظام القيادة الذاتي تتم برمجته مسبقا ويكون مشفراً ضد العبث والإفساد ولعله بذلك تستقيم أمورنا.