الحرب الباردة لم تنته بل توقفت بغتة مع الانهيار المفاجئ للاتحاد السوفييتي. هذه الحرب لن تعود، لكن ثمة بقايا لها لا بد من تصفيتها. فمن سيكتب الفصل الأخير من بقايا تلك الحرب، السياسة الروسية أم الغربية؟ بوتين أم أوباما؟ أم أوكرانيا؟
أوباما يهدّد بشكل متكرِّر روسيا بعقوبات اقتصادية وسياسية رادعة. لكن هناك من لا تعجبه مواقف أوباما، كالسيناتور الجمهوري، ليندسي غراهام، الذي يرى أن أوباما يجب أن يقوم بأكثر من التهديد، عندما قام بوتين بنشر قواته في القرم، داعياً إلى العمل على إحياء خطط حلف الناتو لتفعيل منظومة الدرع الصاروخية في بولندا، التي تعارضها روسيا.. أما صحيفة الإندبندنت فكانت لغتها حاسمة بافتتاحيتها بعنوان «امسك بزمام الأمور يا باراك» مع عنوان عرضي جانبي «أسلوب أوباما الحذر أدى إلى عدم مواكبة السياسة الخارجية الأمريكية الأحداث».
إنما الخيار العسكري مستبعد تماماً، فلماذا يعتبرون أوباما متقاعساً؟ لا سيما أن التفكير الروسي يعتبر شبه جزيرة القرم روسية أهديت لأوكرانيا أثناء وجود الاتحاد السوفييتي أهداها الزعيم السوفييتي ذو الأصول الأوكرانية في الخمسينات. لذا يصر الديمقراطيون الأمريكان على أن التركيز يجب أن ينصب على بوتين، وليس على أوباما، فكافة القرارات المصيرية لروسيا يقرِّرها بوتين وليس المؤسسات كما هو الحال بالغرب.. فكيف يفكر بوتين؟
«أعتقد أن بوتين يلعب الشطرنج، بينما نقوم نحن بلعب الحجلة [ذات المستطيلات المرسومة على الأرض]» يقول مايك روجرز، رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي. أما ستيف روزنبيرغ المحلل السياسي للبي بي سي في موسكو فيذكر بأن ما يغضب بوتين هو شعوره بالخديعة المستمرة من الغرب.. ولا تغيب عن ذاكرته أحداث «الثورة الوردية» التي وقعت بجورجيا عام 2003 و«الثورة البرتقالية» في كييف عام 2004، ويرى أن الغرب هو الذي دبرها. وفي الحالة الليبية اقنع الغربيون موسكو بالامتناع عن عرقلة قرار لمجلس الأمن ينص على تأسيس منطقة حظر للطيران «من أجل حماية المدنيين الليبيين»، ولكن حملة الأطلسي بلغت لأمور لم تكن موسكو لتوافق عليه.
والآن يشعر بوتين بأن الغرب خدعه في الموقف بأوكرانيا عندما أرسل الشهر الماضي مبعوثه الخاص للعاصمة الأوكرانية للمشاركة في مفاوضات بين الرئيس المنتخب يانوكوفيتش و«المعارضة» الأوكرانية، أدت الى التوقيع على اتفاق بين الطرفين - بضمان غربي - بإجراء انتخابات مؤقتة وإصلاحات دستورية وتشكيل حكومة وحدة وطنية. وقبلت موسكو على مضض هذا الاتفاق بوصفه أفضل السيئ. ولكن، خلال يوم واحد، نقض المعارضون الاتفاق وأطاحوا بيانوكوفيتش وعيّنوا رئيساً جديداً من صفوفهم. هناك أيضاً مسألة حلف شمال الأطلسي.. ففي مقابلة أجرتها معه صحيفة كومرسانت الروسية في عام 2010، ذكر بوتين محاوريه كيف أن حلف الأطلسي وعد الاتحاد السوفييتي بأنه لن يتمدد خارج حدوده آنذاك، وقال «لقد خدعونا بأبشع صورة».
«بوتين يؤمن بأن الغرب يتآمر ليلاً ونهاراً على روسيا بهدف زعزعة استقرارها»، حسبما يقول روزنبيرغ. طريقة التفكير هذه لبوتين تجعل «الغربيين خائفين ومذهولين. حين يرون أمامهم رجلاً لا يمكن توقع أفعاله.. رجل من حقبة أخرى، ربما من القرن التاسع عشر أو النصف الأول من القرن العشرين». كما علّق اليكسي مكاركين، من مركز التكنولوجيات السياسية.
فيما اعتبر نيكولاي بتروف، من المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، أنه «بعد قرار أوكرانيا الخروج من الفلك الروسي، يريد بوتين الاحتفاظ بقطعة منها، أقله القرم، وإن أمكن مناطق الشرق كمقاطعات شبه مستقلة. لكن لا مصلحة له قط في تصعيد النزاع».
وأكد المحلل الكسندر غولتس أن «بوتين لا يخشى فكرة أن يصبح منبوذاً من العالم»؛ فيما اعتبر مكاركين أن «رد فعل الغربيين لا يخيف بوتين».
هل صحيح أن بوتين لا يعبه بعواقب قراراته؟ أظهر استطلاع للرأي نشره الكرملين في فبراير الماضي أن 73% من الروس يرفضون الانزلاق نحو أوكرانيا. وأجاب فقط 15% بالقول (نعم) للتدخل الروسي في حال الإطاحة بالسلطات الشرعية في أوكرانيا، بينما اعتبر 30 % فقط إن احتجاجات كبيرة ستحدث وتجبر موسكو على الانسحاب من أوكرانيا في حال التدخل.
هذا يعني أن سياسة بوتين ستواجه تحدِّيات داخلية إضافة للتحدِّيات الدولية من تعرضها لعزلة دولية سواء من حلفائها (مثلما فعلت كازاخستان) فضلاً عن منافسيها.. لكن ما حدث في أوكرانيا من توجه حكومتها الثورية نحو التحالف مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، يشكّل تهديداً استراتيجياً كبيراً لا يمكن القبول به، كما يردّد بوتين ومستشاريه. هذا ما جعل أوباما يقول: «يبدو أن الرئيس بوتين لديه مجموعة مختلفة من المستشارين يصوغون مجموعة مختلفة من التفسيرات. ولكنني لا أعتقد أن ذلك يخدع أي أحد».
ما هي الخيارات المتوقعة التي يمكن للغرب فعلها؟ الطرد من مجموعة الثمانية.. عقوبات اقتصادية مع دعم اقتصادي لحكومة أوكرانيا الموالية للغرب.. فرض قيود على التأشيرات، وتجميد أصول مالية، إضافة إلى قيود تجارية واستثمارية. وفرض عقوبات على البنوك المملوكة للدولة. هذه الإجراءات إن نفذت قد تفرض نوعاً من عزلة دبلوماسية على الرئيس بوتين، الذي يسعى إلى توطيد العلاقة بين بلاده مع الغرب. إضافة إلى أنها ستلقي بمزيد من الضغوط على الاقتصاد الروسي المتأزم، مما يجعلها واحدة من أكثر وسائل الضغط فاعلية على بوتين.
القول الفصل هو لأوكرانيا التي كانت تحصل على قروض ومساعدات من روسيا، لكن ضغائن الماضي جعلت غالبية الأوكران يتوجهون غرباً، فأوكرانيا تتعاون منذ عدة أعوام مع الحلف الأطلسي الذي وقعت معه شراكة عام 1997. وفي عام 2008، توافق قادة دول الحلف على أن أوكرانيا باتت جاهزة للانضمام الى الأطلسي. تصور لو أن كندا أو المكسيك تخلت عن أمريكا وتوجهت لروسيا! الذي حصل أن حكومة الرئيس المعزول يانوكوفيتش الموالي لروسيا تخلت عن هدف الانضمام للأطلسي عام 2010 مما أغضب الغرب عليه.. لتصبح أوكرانيا منقسمة على نفسها بين الغرب وروسيا..
يُنتظر من الإدارة السياسية في أوكرانيا أن تكون حصيفة وتوحد موقفاً عقلانياً متوازناً بين الغرب وروسيا لتجنب بلادها أن تكون مسرحاً لصدام الدول العظمى، وتجنب العالم من أزمة خطيرة، وتنهي الفصل الأخير من الحرب الباردة.