كثرت منذ نحو عقدين دراسات ومقالات لتفسير ظاهرة أعمال العنف «الإرهاب»، وزادت الرغبة هذه الأيام نتيجة الحيرة في تفسير الحالة «الداعشية» لأنها تمثل تطرفاً يفوق تطرف القاعدة، في وقت كان يُظن أن الأخيرة بدأت تتنازل بعد سلسلة من الخيبات والفشل..
اعتدنا أن نربط أعمال عنف الحركات الإسلامية المتطرفة بالفكر الديني المتشدد فقط، نظراً لوضوح ما نلاحظه من علاقة ظاهرية مباشرة. ثمة قناعة عالمية بأن التفجيرات الانتحارية يحفزها دعاة الفكر الديني الأصولي، ويستجيب لهم المؤمنون المستعدون للشهادة. فهل هذا واقع الحال؟
روبرت بيب المختص بشؤون الأمن الدولي جمع أدلة تبين أن الهجمات الانتحارية هي في الواقع تكتيك دنيوي أكثر منه ديني. هذا البروفيسور الأمريكي أصدر عام 2005 كتابه «Dying to Win»، حلل فيه جميع التفجيرات الانتحارية المعروفة بالعالم من عام 1980 حتى 2003م وعددها 315 هجمة. وقد وجد علاقة ضعيفة بين الدين والهجمات الإرهابية، بينما وجد أن السبب الأغلب لهذه الهجمات هو رد على الاحتلال من الدول الديمقراطية. وتوصل بحث بيب إلى أن كل العمليات الإرهابية و95% من الهجمات الانتحارية كان التحرر الوطني في صميم عاطفتها. وخلص إلى أن العمليات الإرهابية ليست نتيجة الإمدادات الخطابية من المتعصبين الدينيين، بل هي «ظاهرة يحركها الطلب».
إذا افترضنا صحة هذه الفرضية بأن الإرهاب ليس نتيجة الفكر الديني المتشدد بل نتيجة طلب عاطفي حاد يبحث عن الخلاص عبر فكر متشدد دينياً كان أو دنيوياً! فهو يذكرني بما اعتقده علماء البيئة سابقاً بأن الطحالب السامة تقتل السمك في مصبات الأنهار، ولكن اتضح لاحقاً أن الطحالب نمت حيث مات السمك، فعُرف أن الطحالب لم تسبب موت السمك (Borsuk, et al. 2003). هذا يذكرنا أيضاً بأن أعمال الحركات الإسلامية المتطرفة كثيراً ما تظهر أثناء الاضطرابات وليس قبلها. فهل الاضطراب كما وجدناه في أفغانستان والصومال ثم لاحقا العراق فسوريا سبب حركات العنف أم أن هذه الحركات سببت الاضطراب؟ أم أنه لا علاقة سببية وثيقة بينهما؟
التفسير الآلي للإرهاب الذي اعتدنا عليه يرى خطاً مستقيماً يبدؤه تطرف فكر ديني عبر خطاب أصولي، ثم ينتقل إلى التحريض والتجهيز، ليصل بالنهاية إلى التنفيذ. هذا التفسير لا يبدو كافياً وإن كان يفسر جزئيا حالات من التطرف. مثلاً كيف نفسر أن نسبة كبيرة من الداعشيين في العراق وسوريا أتوا من بلدان لا تزدهر فيها الخطابات الأصولية مثل تونس والأردن والجزائر، ومن الدول الإسلامية التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، بل ومن دول أوروبية! فهل السبب هو تلك الظاهرة التي يحركها الطلب؟
من مبادئ الفلسفة العلمية أن الارتباط الظاهري بين حالتين لا يعني بالضرورة أن بينهما علاقة سببية، أو بعبارة أخرى «الارتباط لا يقتضي السببية». هذا المبدأ في المنطق العلمي فصَّل فيه الفيلسوف ديفد هيوم (ت 1776)، ضارباً مثالا «مزارعة حين نراها تغذي الدجاج يومياً نقول هي امرأة تحب الحيوانات. لكن الواقعة ستدحض حين تقوم لاحقاً بذبح الدجاجة. فالخاص الذي تكرر هنا لا يمكن أن يكون عاماً، وبالتالي فإن علماً يقينياً [قطعياً] كما أراده ديكارت ليس ممكنا.»
في سياق هذا المبدأ نُشرت ورقة في المنهج العلمي عنوانها «عشرون ملاحظة لتفسير الإدعاءات العلمية» في أشهر مجلة علمية وهي nature (سذرلاند وشبيجلهالتر وبرجمان، 2014)، لمساعدة صُنَّاع القرار على تمييز المعلومات العلمية التي تصلهم من مستشاريهم واكتشاف أسباب ظهور الأنماط ووصفها وتحليلها وتفسيرها. مما نشر في الملاحظات أن «الافتراض مفيد بأن أحد الأنماط هو السبب لنمط آخر. لكن الارتباط قد يكون صدفة، أو نتيجة لحدوث كلا النمطين بسبب عامل ثالث، كمتغير مربك، أو كامن.» فهل نبحث عن عامل مربك أو كامن في الحالة الداعشية، أو في «القابلية للاستدعاش» كما صاغها بطريقة مميزة الدكتور عبد السلام الوايل (ستناقش في الجزء الثاني).
من أخطر طرق التفسير هو ربط الأحداث المجتمعة زمنياً أو مكانياً كسبب ونتيجة دون الأخذ بالاعتبار لعوامل أخرى. وفي موضوعنا هنا نجد الربط السببي يقتصر على الخطاب الديني المتطرف، فماذا عن الخطابات الأخرى؟ وماذا عن الخطاب العربي عموماً منذ التنشئة والمدرسة إلى تشكل التيارات الفكرية؟ ألا ينتشر بينها القطعيات المتطرفة؟ وكم من اليقين المطلق يصاحب الرأي؟ انظر حولك كم من التخوين والتكفير والاتهامات الحادة تُلقى على المخالفين من شتى التيارات؟ كم مرة باليوم نواجه مطالبة فلان بمحاكمة علان بسبب اختلاف في الفكر.. كم مئة مرة باليوم تقرأ في تويتر شتائم وتأليب للرأي الآخر؟ لماذا لا يدرج هذا العامل في محاولة التفسير؟
أضف إلى ذلك أن جزءاً مهماً من الإرهاب على مستوى العالم خارج البلدان الإسلامية ولا تمثل الحركات الإسلامية المتطرفة إلا جزءا ضئيلا منه. خذ مثلاً ما توضحه تقارير اليوروبول أنه منذ 2007 فإن العمليات الإرهابية التي تتجاوز المئات لا تشكل المنظمات الإسلامية فيها 1% في أوروبا في حين يأتي المصدر الأول من الحركات الانفصالية ثم الجماعات اليسارية والفوضوية.
ما يركز الاتهام على الحركات الإسلامية المتطرفة هو كمية وحدَّة أعمالها بالبلدان الإسلامية المضطربة، فلو لم تظهر تلك الحركات لظهرت أخرى كما يحصل في ليبيا ونسبياً في اليمن. فالخطاب المتشدد (العرض) ينتشر في كل أنحاء العالم حتى تلك المزدهرة بالحريات لكن الفرق في درجة الطلب عليه وليس في نوع العرض. فلماذا متطرِّفون من قوميي أوروبا حتى في دول متسامحة يحصلون على ترتيبات متقدمة نسبياً بالانتخابات كما بالنرويج الدولة الأكثر تسامحاً بالترتيب العالمي، فضلاً عن دول مثل فرنسا؟
لماذا ينمو التطرُّف في دول لا تعاني اضطرابات أو مشاكل اقتصادية إذا كان يُربط تلقائياً مع سوء أحوال المعيشة؟ ولماذا يزدهر في زمن الانفتاح بين الدول والشعوب، في زمن يقال إنّ العالم أصبح قرية صغيرة؟ وإذا كان هناك طلب عاطفي يبحث عن الخلاص عبر التطرف، فعن ماذا يبحث؟ هل هو الخلاص من الاغتراب والبحث عن الهوية في زمن العولمة كما يطرح مركز شاتام، أم هي «العولمة حين تقاتل نفسها» حسب تعبير بوديريار؟
يتبع..