في الوضع الذي يقرره العنف يتغلب الفريق الذي يتحكم بأكبر قدر من القوة المسلحة، وإذا كان تنظيم داعش يمارس أكبر قدر من العنف فإن ذلك لا يمثل قوة كافية ولا تحكماً بالقوة بقدر ما يمثل حالة نفسية من اليأس الانتحاري..
الذي جعل داعش بهذا الصيت الإعلامي هو حدة إرهابها وليس قوتها، فالإرهاب يمثل حرباً نفسية ضد الآخرين، ولعبة معنوية للاستحواذ على العقول المتطرفة. داعش أتت من حالة فشل حاد سياسياً واجتماعياً في العراق وتنامت منابعها من استمرارية هذا الفشل والنزاعات المتأججة التي امتدت إلى سوريا، واستقطبت شباباً غراً من الأقطار كافة. فما هو مستقبل هذا التنظيم؟
الرصد الموضوعي لوضع داعش يمكن تقسيمه على ثلاثة مرتكزات: مقدار قوتها، القدرة على التحكم بهذه القوة، التعامل مع الفرقاء. وبمراجعة ذلك نجد أن داعش لن تحقق نجاحاً على المدى المتوسط بل ربما لن تحققه على المدى القصير. فمن ناحية القوة فتنظيم داعش من التنظيمات غير الكبيرة حجماً في سوريا عدداً وعدة، فرغم تفاوت تقديرات أعداد أفراد داعش، فإن أعلى التقديرات تظل أقل أضعافاً مقارنة بغيرها من التنظيمات الكبرى هناك. والنتيجة المنطقية لذلك هي كما اختصرها المختص بحركات الإسلام السياسي في سوريا توماس بييريه (جامعة أدنبره) أن «التنظيم ليس بوسعه الانتصار نظراً لقلة عدد عناصره مقارنة مع بقية الكتائب المعارضة»..
أما من ناحية التحكم بهذه القوة فرغم أن داعش تبدو منضبطة تنظيمياً فإنها تمارس وحشية عشوائية يرتد عليها ويُنَّفر المتعاطفين معها. هذا العنف الأهوج الذي يندر أن نجد له مثيل في زمننا الحاضر يعني أن تنظيم داعش في حرب مع جميع الفرقاء في الساحة حتى مع منافسين أو حلفاء لها، وحتى تنظيم القاعدة تبرأ منها. هذا التكتيك الأرعن الذي يسير بلا إستراتيجية لا بد أن يؤدي بالتنظيم إلى الفشل. لذا من الطبيعي أن يرى الباحث في الشؤون الإسلامية رومان كاييه (المعهد الفرنسي للشرق الأوسط) أن تنظيم داعش «لا يمكن أن ينتصر وحده أمام ائتلاف يضم ضده كل هذه القوى من المعارضة المسلحة».. مشيراً بأن المعارك التي يواجهها من القوى كافة «سيكون وقعها كارثياً على المقاتلين». لتصبح غاية التنظيم هو «شق الاتحاد المقدس ضده» كما يرى كاييه. وليس من المستبعد أن يتعرض أعضاء التنظيم لعملية إبادة في نهاية المطاف..
غاية ما يمكن أن يصل إليه هذا التنظيم هو التخريب والتدمير، وليس صدفة أن تكون العملة النقدية التي يُذكر أن داعش أصدرتها يظهر فيها صورة تفجير 11 سبتمبر بنيويورك، فتلك هي المهمة الأساسية التي يتقنها. وليس صدفة أن هذا التنظيم سرعان ما بدأ في تطبيق أقسى العقوبات على الناس في المناطق التي يسيطر عليها قبل أن يحاول أن يبني ما يهدمه. مما يجعل الناس الذين تحت سيطرة داعش يمقتونها فيما لا يزال من يؤيدها من أناس ودعاة متشددين بعيدين عن إدراك عواقب ممارسات داعش الوحشية، وما زالوا يتعاطفون معها ويمدونها بالشباب الغر والمال..
من كل ذلك يبدو أن فشل داعش حتمي وهي مسألة وقت لن يطول، فداعش تأتي من حالة فشل ذريع وستذهب إلى ذات الحالة. إلا أن ذلك لا يعني أن داعش ليست خطيرة، فهي لا تزال تمتلك قدرة تخريبية يصعب تقديرها، ليس على المستوى الميداني فحسب بل أيضاً على المستوى الفكري في تغذية التطرف وزيادة الاحتقان الفئوي وتأجيج المسألة الطائفية. هذا يتطلب استعداداً وتهيئة لمواجهة المد الاحتقاني الذي تثيره داعش بالمنطقة العربية، إضافة للاحتقان الموجود أصلاً. فإذا كان إرهاب داعش يستند على أشد التفسيرات تطرفاً للفكر الديني المتشدد فهو أيضاً يأتي نتيجة طلب عاطفي حاد يبحث عن خلاص من وضع مترد، بأي طريقة كانت دون تفكير عقلاني بالعواقب. فالمتطرف يبحث عن متنفس لمشاعر عاطفية حادة ناجمة عن تراكم الشعور بالظلم.. حالة استياء وغضب، قد تؤدي بالأفراد والجماعات إلى الدخول في صراع مع الآخرين يتوافق مع حدة الحالة العاطفية (كولمان وبارتولي).
مستقبل داعش ليس صعب التوقع بأن مصيره الفشل، لكن ماذا سيبقى منه؟ انظر حولك من الكتابات، كم من التخوين والتكفير والاتهامات الحادة التي تُلقى جزافاً على المخالفين من شتى التيارات دون توثيق أو أدلة سوى التخمينات ومحاسبة النوايا.. حتى صار هناك من يحاسب نوايا الصامتين! فرغم اختلاف أنواع التطرُّف واختلاف درجاته، فإنّ أساس التطرف هو الموقف العدائي تجاه المخالفين. فليست مشكلة المتطرّف في إيمانه المطلق بقناعات معيّنة بل في تهديده للمخالفين.
مستقبل داعش يتطلب منا معالجة ظاهرة العنف والتطرف بأفضل الطرق العلمية.. ولتلك المعالجة طريقان. الأول بنيوي ومؤسساتي، يعمل على البحث في البناء الأفضل في السياسة والاقتصاد والبنى الاجتماعية المضادة للصراعات.. أي يضع الحلول على المستوى البنائي عبر ضبط التركيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضمن إطار مناسب لينتفي الصراع. وهذا الطريق هو مقاربة للحل من فوق إلى أسفل.. والطريق الآخر هو حل النزاع من أسفل إلى فوق، بالنظر إلى جذور النزاع الأساسية ومحاولة تفسير الدوافع الانفاعلية الأساسية للنزاع، وكيف يأخذ مجراه الخاص، ويدرس دور العلاقات بين الأفراد وأوضاعهم النفسية وخلفياتهم، وأسباب المشكلة، ومن ثم حلولها.. (ألكسندرا عسيلي).
أحد الحلول ما تطرحه دراسة دار شاتام (2012) عبر عملية التواصل والحوار بين الجماعات المختلفة والفرقاء المحتقنين، خاصة بين الأكثرية والأقلية، لمعالجة الأزمات الرئيسية بدلاً من تركها للجماعات المتطرّفة. وتوضح الدراسة أنّ كمية كبيرة من الأبحاث أثبتت فاعلية هذه الطريقة في النفسية الاجتماعية، وأنّ زيادة الاتصال المباشر بين الجماعات المختلفة خففت الأحكام المسبقة وهواجس الخوف من الآخر وزادت من درجة التسامح فيما بينها. وهنا يأتي دور النُّخب المثقفة والنشطاء والمؤسسات التطوعية من الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني لتشكِّل وسيطاً بين الجماعات المتطرّفة المتناحرة..
لذا أقيمت مراكز علمية في الغرب لدراسة التطرّف واقتراح أفضل الطرق لمواجهته. ولدينا هنا في المملكة مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني، والمبادرات الإصلاحية والحوارية العديدة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله وآخرها دعوته -حفظه الله- لتأسيس مركز للحوار بين المذاهب الإسلامية..