يبدو أنني هذه الأيام مهجوسة بفكرة النساء والحقوق الشرعية للنساء بعد أن قضيت ثمانية أشهر و «صيفية» أعمل مع فريق بحثي مدجج بالفضول المعرفي والأسئلة من طالبات قسم الدرسات الاجتماعية بجامعة الملك سعود على بحث بعنوان, «المرأة السعودية أمام المحاكم الشرعية»، دراسة اجتماعية استطلاعية نقدية للبيئة القضائية وحال
الأنظمة العدلية والوعي الحقوقي في واقع المرأة السعودية. وهي دراسة نظرية ميدانية تجمع بين التحليل الكمي والكيفي، وقد طبقت على عينة من مراجعات القضاء بمحاكم الرياض.
وإذا كان هاجسي بهذا الموضوع قديماً منذ أن كتبت بهذه الصحيفة واحدا من أوائل المقالات التي طرحت بشفافية شرسة واقع المرأة السعودية أمام المحاكم الشرعية عام 1995م، فإن زهوي بالإنجاز البحثي وحمدي للرحمن على التوفيق فيه، قد جدد وعمق إحساسي بالجوانب المختلفة للموضوع. ولذا، فقد قمت الأسبوع الماضي بعمل ملخص لمجمل نتائج البحث ومقترحاته وتوصياته وأعددته لينشر كمقال من مقالاتي ليوم الأربعاء في هذا الصحيفة. أما وقد استبعد رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك المقال، ولم يكتف بذلك بل أشار عليَ مشكورا, بأن أرسل مباشرة لوزير العدل د. محمد العيسى نسخة من كامل البحث بما جاء فيه من شرح للواقع وتحليل إحصائي واجتماعي لأقوال المبحوثات سواء في عينتهن من ذوات التجربة الحية في الوقوف أمام المحكمة أو من عينة المبحوثات الأخرى من المهتمات بالشأن الحقوقي والنسوي، فلم أجد مخرجا لصخب الموضوع في دمي وفي جهازي المعرفي إلا أن أعمل بمشورة رئيس التحرير دون أن أتخلى عن التطرق لموضوع النساء والحقوق الشرعية من زوايا أخرى.
وفي هذا المقال أقول: لقد شكلت تجارب العالم العربي والاسلامي في المجال النسوي ومنها الحركة النسوية الشهيرة» مساواة» ببدايتها الماليزية وتوسع عضويتها بالتفاف نسوي عالمي حولها من نساء عربيات ومسلمات عبر القارات, نقطة تحول للخروج من التبعية للنسوية الغربية إلى أفق مشترك بين الحضارات. وقد أعطى بعض تلك التجارب أمثلة حية على أن أي تغير تقدمي وتحسين لأوضاع المرأة عبر النظريات النسوية الغربية بالاعتماد غير المشروط لطروحاتها لايملك الفاعلية ولا القبول ولا القدرة على تطوير أوضاع النساء بالمجتمعات غير الغربية. فعلى الرغم من الالتقاء النسبي مع الجذر الموضوعي لتلك الطروحات في منطلقاته الأساسية المعنية برفع الظلم التاريخي الذي وقع على النساء وبإعادة الإعتبار للمرأة كمواطنة وإنسانة كاملة الآدمية والأهلية، فإن في تفاصيله المولودة في الوعاء المعرفي والاجتماعي للمجتمعات الغربية الكثير من الاختلافات عن طبيعة واقع النساء بالمجتمعات العربية والإسلامية.
كما أن ذلك التنظير النسوي الغربي نادرا ما يضع في الاعتبار الخصوصيات الحضارية للمجتمعات الأخرى ومنها مجتمعاتنا بانتمائها وارتباطها التاريخي بالعمق الحضاري للثقافة العربية الإسلامية.
بل إن التنظير النسوي الغربي برأي مجتمعاتها نفسها يكشف عن أزمات عميقة على المستوى الايدلوجي والممارسة وعلى مستوى التعدد الاثني والعرقي في بعض تلك المجتمعات الذي قد يكون له مرجعيات حضارية وثقافية لا تتفق مع الطرح الغربي الخالص. وهذا ما جعل كثيرا من النساء لا يرى في جل الطرح النسوي الغربي ما يحقق للمرأة الإنصاف الاجتماعي المنشود وما يكفل حقوقها إذا انتقل للتطبيق على أوعية حضارية أخرى. وتعتبر الباحثة والكاتبة والأكاديمية ليلى أحمد واحدة من الكاتبات القلائل اللواتي بادرن إلى تبني مواقف نقدية للتنظير النسوي الغربي وحاولت التصدي بجرأة أدبية وعلمية موضوعية لأزمة التنظير الغربي النسوي. وهذا ينطبق أيضا إلى حد كبير على عدد من النسويات الأمريكيات ذوات المرجعيات العربية والإسلامية مثل المحامية عزيزة هبري وأيضا مرفت حاتم وسعاد جوزف.
هذا مع ملاحظة أن مثل هذا الموقف النقدي من التنظير النسوي يأتي في إطار توجه عام على المستوى البحثي والاكاديمي وليس على المستوى السياسي - مع الأسف- لمراجعة كثير من طروحات التغير الاجتماعي في ضوء الكشف عن العلاقة الملتبسة بين التغير الاجتماعي المنشود الذي يتطلع الى المحافظة على كرامة الافراد والمجتمعات وتمكينهم من أن يصبحوا جزءا فاعلا في بناء مؤسسات مدنية يشاركون من خلالها في القرارات المصيرية والتفصيلية الخاصة بالحاضر والمستقبل الوطني، وبين الغرب في فرضه لنماذجه الجاهزة الأوروبية والأمريكية معا نحو بلوغ هذه الغاية فيما يعرف في أدبيات علم الاجتماع والسياسة اليوم بالمركزية الغربية. ولقد كان إدوارد سعيد.أحد رواد هذا التوجه النقدي العام.
والحقيقة أن الأهمية العملية لمثل هذه الطروحات النقدية، وفي هذا الوقت بالذات الذي اختلطت فيه الأوراق وتذبذبت فيه البوصلة، هو ما يمكن أن تمدنا به مثل هذه الوقفات النقدية من زاد الرؤية والمراجعة لواقعنا، فإذا كانت الطروحات النسوية الغربية في مثالنا هذا ليست مما يستطيع استيعاب تطلعات النساء في المجتمعات العربية والاسلامية لاغترابها عن طبيعة الواقع فيه او لما يخربها من تداخل مستويات العمل التنظيري مع توجسات الهيمنة السياسية، فإن البديل المنطقي أن تأتي محاولة إنصاف المرأة عن طريق البحث في هذا الواقع نفسه. وذلك بدراسة هذا الواقع كما جاءت محاولتنا البحثية كمثال رمزي، لدراسة واقع المرأة السعودية أمام المحاكم الشرعية. وهذا في سبيل استنباط البدائل والحلول عن طريق فهم المرجعية الاجتماعية القائمة وعن طريق إعادة قراءة مرجعيته الحضارية. فاستلهام وتفعيل الأدوار النسوية الفعالة والمشرفة، تنشيط الاجتهاد الفقهي في مجال ما يخص المرأة من فقه المعاملات، تشجيع تعدد الآراء وتفاعلها واشراك النساء انفسهن مشاركة فعالة وليس لمجرد تطعيم المشهد الاعلامي أمر في غاية الضرورة في محاولة التوصل الى صيغ مُرضية في تصحيح أوضاع النساء ضمن السياق الحضاري الاسلامي بما يجعله مرحلة تطوير لهذا السياق.
وإذ كنت أعتقد صادقة أن واحدا من أهم منجزات مشاريع التنمية في وطننا هو مشروع تعليم النساء والذي حقق في ظرف سنوات معدودة مستويات غير مسبوقة على مدى تاريخ المملكة، بل وعلى مدى تاريخ منطقة الجزيرة والخليج كلها، فإنني أرى وبالله التوفيق أن مما يتوج هذا المجد هو أن يدخل الى صلب هذا المشروع التعليمي النسوي العظيم من مدارس محو الأمية إلى مناهج الجامعات مادة تهدف الى هدف واحد محدد هو تعليم النساء حقوقهن الشرعية، كما جاء بها الإسلام من حقوق المواطنة والانتماء إلى حقوق المشاركة والبيع والشراء والعمل، ومن حقوق الزوجية إلى حقوق الوالدين والأمومة بما فيها حقوق الطلاق والحضانة والنفقة والمهر.
وعلى مستوى آخر، من مستويات العمل في هذا الموضوع أرى انه قد آن الأوان لتشتمل جامعاتنا على قسم للدراسات النسوية لتكون دراسة وبحث وتوضيح الحقوق الشرعية للمرأة المسلمة هي أحد البدائل العلمية العملية لأزمة الطروحات النسوية في الغرب والشرق معا.