روسيا دولة طالما ارتبطت بنوعٍ من الغموض. وراء أكوام الثلوج والرياح الباردة والزمهرير السيبيري الجهنّمي الذي اشتهرت به روسيا، يوجد أناسٌ باردو الملامح والمشاعر، لا يظهر على وجه الروسي تعابير يسهل فهمها، وإنما – سواءً شتمتَه أو ألقيتَ له طُرفَة – كأنك تنظر لوجهٍ نُحِتَ من الجليد الذي يعيش فيه هذا الإنسان الروسي الغامض.
وروسيا دولة تحفل بالكثير من الغرائب والمتناقضات، غير أنّ من أبرزها ما يسمّى المدن السرية. إنها مُدُن بالغة الغموض، تُسمّى أيضاً المدن المغلقة، وهي مدن لا يَعرف عن وجودها إلاّ القليل جداً من الناس، ولا توجد حتى على الخرائط. إنها مُدُن ذات حراسة قاسية، محاطة بأسلاك شائكة وأبراج مراقبة، أشبه بالسجون. من يعيشون خارجها لا يستطيعون دخولها إلاّ باجتياز نقاط أمنية مشددة، ولا يستطيع أن ينتقل لها للسكن إلا إذا نقلته الحكومة الروسية هنالك، وذلك بعد أن تُحيل الحكومة ملفّه إلى جهاز الكي جي بي الأمني - كما عُرِف بذلك في الماضي - ليُمشِّطَ تاريخه وحاضره وكل صغيرة وكبيرة في حياته قبل أن يعطوه الضوء الأخضر أن ينتقل هناك. أما سكان المنطقة فلديهم حرية أكثر في التنقل، وبسبب هذه التشديدات الأمنية فإنّ الحكومة عوّضتهم ببيوتٍ أفضل وكذلك - خاصة أيام الاتحاد السوفيتي - ببضائع وسلع أجود وأنْوَع مما كان يوجد في باقي الدولة الشيوعية آنذاك والتي أكثر سلعها عادية متشابهة، وكانت الحكومة تحث أهل المدن السرية أن لا يبوحوا بمكانها أو أي معلومات عنها لمن هم في خارجها، وزادت في عطاء (راتب) الذين يتعاملون مع المعلومات الحساسة كهذه.
لماذا كل هذا؟ السبب هو أنها في الغالب مدن خاصة بالأبحاث والتجارب النووية، وأحياناً لا علاقة لها بالمشاريع النووية، وإنما تكون مكاناً لتجربة وأبحاث الأسلحة والتقنية العسكرية والفضائية والطائرات. كانت المدن المغلقة أكثر تشديداً في السرية والحراسة لما بدأت فكرة المدن السرية تظهر في الأربعينات الميلادية من القرن الماضي.
ومن المدن السرية في روسيا اليوم مدينة أوزيورسك، فهذه المدينة الصغيرة ذات الثمانين ألف ساكن مُغلقة ولم تُعرف إلا باسم «شيليابينسك 65»، وهذا كان التقليد الشائع في تسمية المدن السرية، وهو أن تُسمّى باسم أقرب مدينة كبيرة لها - وفي هذه الحالة كانت مدينة شيليابينسك أقربهنّ لمدينة أوزيورسك -، وأما الرقم في الأخير فهو آخر خانتين من الرمز البريدي، ونالت أوزيورسك هذه السرية لأنها تضم مصنعاً للبلوتونيوم الذي يُستَخدَم في الأسلحة النووية. و من المدن السرية كذلك مدينة سيلاماي في دولة استونيا - وكانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي - والتي تولّت تخصيب اليورانيوم.
والآن بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، صارت المسألة أقل سرية - خاصة مع الإنترنت ووسائل الإعلام والتواصل الحديثة - وأقل تشديداً، غير أنه لا زالت توجد على الأقل 15 مدينة سرية في روسيا اليوم وعليها تعتيمٌ شديدٌ من الحكومة الروسية، ومهما انفتح العالم فإنّ الغموض سيظل جزءاً من الهوية الروسية.