المقاصد الشرعيّة، هي: قواعد كلية مستخرجة من استقراء كافة النصوص، والأحكام الجزئية. وكما أنها تقوم على ضرورة اعتبار الكليات، فإنها تقوم أيضاً على ضرورة اعتبار الجزئيات، بحيث تتضمّن منهجاً واضح المعالم، يرسم للعالم المجتهد أسس الاستنباط، وذلك ضمن المقاصد الكبرى للشريعة،
المبنيّة على الجزئيات، مع مراعاتهما معاً، وأن يكون الاجتهاد مبنياً عليهما - أيضاً -، أقصد : القواعد، والكليات مع الأدلة الجزئية.
لا تزال قناعات خادم الحرمين الشريفين - الملك - عبدالله بن عبدالعزيز، تزداد يوما بعد يوم، بأن الصراعات الحزبية من أعظم الأمراض التي تنخر في جسد الأمة، والتي خرجت بها من السعة إلى القوالب الضيقة، وأوهنت حبل الاتحاد الإسلامي، وغشيت المسلمين بسببها الغواشي، وأصبحت كل الحروب العنصرية المفروضة من الأمم المهيمنة على الأمم المستضعفة ؛ بسبب تلك الآفة خطأ، وجريمة، فبلغ التصدع، والانشقاق، إن لم نقل التطاحن أعلى درجاته، بعد انتكاسات عاشتها الأمة الإسلامية. وهو ما أدركه الغرب، من أن الروح الإسلامية إذا ما طُبقت، فستسود العالم بتوحده، وتكاتف أبنائه. وعليه، فإن سياسة: «فرق تسد»، مع استغلال ضعاف النفوس أمام الإغراءات المادية، أو المعنوية، هي من عملت على إثارة النزعات العرقية، والدينية، والمذهبية، وتقويض الأمن، والاستقرار؛ من أجل تمزيق أوصال الدول، والعمل على انهيار أركان المجتمع الأوسع.
دراماتيكية الانتماءات الحزبية المقيتة، والتصنيفات الفكرية الخاطئة، تحولت في طبيعتها المنحرفة إلى لغة الدماء، وذلك من خلال العنف، والمؤامرات القذرة ؛ لتفرز المسلمين إلى أقليات حسب المذهب، أو الفكر، أو العرق، أو اللون، فلجأ صنّاعها - مع الأسف - إلى بث ثقافة الكراهية، والعنصرية، وإلى تأجيج النزاعات، والفتن الطائفية ؛ حتى لو كان السبيل إلى تحقيق ذلك سفك الدماء، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وتدمير المقومات السلمية للوحدة الاجتماعية بين المسلمين.
إن جعل الولاء لحزب آفة خطيرة، ابتلي بها العالم الإسلامي - بشكل عام -، بل لا أبالغ عندما أقول : إن الحزبية من أعظم الأمراض التي نخرت في جسد الأمة، فساهمت في تفريق كلمتها، وصرفتها عن منهج نبيها - صلى الله عليه وسلم -، وأمرضت العزائم، والإرادات، كل ذلك بسبب زيغها عن الطريق المستقيم، وابتعادها عن تعاليم دينها.
ثم إن الحزبية قبح في المنهج، وسوء في المبدأ، تجمع القوالب الضيقة، وتكيل بمكيالين - كونها - تفتقد الصدق، فتشم رائحتها من بعيد، وعندما تتعطل ملكة التفكير، فلا مكان - حينئذ - لقرار اتخذته، أو مصير قررته ؛ ليقع صاحبها في طريق منحدر، مآله السقوط في الهاوية. ولو لم يكن من آثارها السلبية إلا التنكر للحق، وتأييد الباطل، وحجب البصائر عن ضوء الحقيقة، وإسقاط المخالفين؛ لكفى بها إثماً مبيناً. فالحياة الحزبية المقيتة، هي التي تفرق، ولا تجمع، كون رؤاها مقتصرة على وعود فاقدة للمصداقية، تزيد من تعقيدات الواقع الأليم، الأمر الذي سيفاقم من حدة الأزمات، وتداعياتها الخطيرة. وهو الأمر الذي جعل من مفتي عام المملكة الشيخ - عبد العزيز آل الشيخ، يوجّه - في مناسبات عديدة - انتقادات حادة لـ»العمل الحزبي»، وما خلفه من صراعات، غلبت المصلحة الشخصية على مصلحة الأوطان.
إن أبعاد مسطرة الحزبية المقيتة، باتت تتأرجح بين الفساد، والتخوين. وهو نتاج فكر تلك الحزبيات، واجتهاداتها الخاطئة. إذ إن العيب كل العيب، أن تكون الآراء متعارضة مع القناعات، لا لشيء، وإنما خوفاً من طرح البديل، وعدم الانجرار عكس التيار، وما ذاك إلا لاتصافها بالعشوائية الفكرية، وبالمزاج الفكري المتقلب.
لست بالسياسي الذي لديه القدرة على استشراف المستقبل ؛ ولكن ما أستطيع الإدلاء به، هو: أن على علماء الأمة الإسلامية العمل صفاً واحداً، استجابة لضغوط الواقع الأليم، ولن يتحقق ذلك إلا بالتحذير من مغبة الصراع الحزبي، والتصنيف الفكري، عن طريق التشاور، والحوار ؛ لمعالجة النوازل، وقضايا الأمة المصيرية معالجة علمية، تقود الأمة إلى الرشد، فتتأمل في أسباب الأعمال الناجحة، والسبل إلى معالجتها، ومن ذلك على سبيل المثال : تجسيد روح التعايش المشترك، والقبول بالآخر، كقيم ثقافية، ووطنية، تسري في وجدان شرائح المجتمعات، وتتمثل في علاقاتهم، وتعاملاتهم، دونما عنف، أو حروب، أو ضيق، أو اضطهاد.
الأمر الملكي القاضي بحظر الانتماء للتيارات، أو الجماعات - وما في حكمها -، الدينية، أو الفكرية المتطرفة، أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخلياً، أو إقليمياً، أو دولياً، أو تأييدها، أو تبني فكرها، أو منهجها بأي صورة كانت، أو الإفصاح عن التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي، أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك، أو التشجيع عليه، أو الترويج له بالقول، أو الكتابة بأي طريقة، دليل بيّن على أنّ أحكام الشريعة الإسلامية لا يمكن أن تغيب؛ بسبب مخالفتها لمقاصد النفوس، أو بما يتوافق مع شهواتها ؛ حتى وإن تستّرت خلف دعوى حفظ مقاصد الشريعة، فكثيراً ما يندفع بعض المجتهدين إلى تحقيق مصلحة شرعية في اجتهادهم، غافلين في المقابل عن المفاسد المترتبة على ذلك؛ ما يجعلهم في نهاية المطاف نادمين على ما أقدموا عليه؛ بسبب قراءاتهم الخاطئة لتلك الاجتهادات.
إنّ الوقوف على المدارك الشرعية، وتفهُّم الحكم التشريعية ؛ نظراً لاختلاف القواعد من حيث أصولها من جهة، ومن حيث وجود الدليل على حكم المسألة المبحوث عنها، أو عدم وجوده من جهة أخرى، مطلب مهم. وعند إسقاط - ما تقدم -، وتنزيل نصّ الأمر الملكي ضد كل من يحاول إقحام ثوابت الدين في معترك السياسة الحزبية، أو الفكرية، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الفرقة، والتشرذم باسم الدين ؛ لأنّ هذه أدوات تتغيّر بتغيُّر الزمان، والمكان، باعتبار أن ربط الدين بالسياسة بمعناها الحزبي، أو تصنيفه الفكري، يعتبر مفسدة للدين، وإهانة، وظلم له. وفي تقديري: أنّ هذا صحيح، وما حدث، ويحدث في المجتمعات الإسلامية، والأوساط العلمية، والعملية، من إهمال القواعد العقدية، أو الدعوية، أو الخلقية، بعيداً عن العناية بالقواعد الأصولية، والفقهية الغالبة، لم تكن في نهاية الأمر قواعد ضابطة، ومعالم مفهمة للأحكام الشرعية المتعلّقة بها.
يمكنني بعد هذا التوضيح، مناقشة هذه النتيجة، ما دام أنّ هذه التطبيقات على أرض الواقع، لا تخرج عن كونها اجتهادات بشرية قاصرة، وهو ما يجعلنا بحاجة ماسّة إلى ضرورة التأصيل الشرعي لكثير من قضايا الدعوة في الاستدلال، والتقعيد، والتنظير، وربطها برباط شرعي متين منضبط ؛ حتى يكون لهؤلاء الدعاة مرجعية علمية موثوق بها ؛ ولتكون اجتهاداتهم على مقتضى ما يرضاه الشارع الحكيم، وذلك من خلال الموازنة بين المصالح، والمفاسد، والتركيز على مآلات الأمور، دون الاكتفاء بالنظرة الآنية القاصرة.
إنّ قراءتنا للواقع - اليوم -، تستدعي العمل على ترشيد العمل الإسلامي، وربطه بقواعد الأولويات الفقهية، - لاسيما - وأنّ المتبصِّر بمتطلَّبات المرحلة الدعوية، وما يكتنفه من قصور واضح في التكوين الشرعي، أدى - مع الأسف - إلى انفصال الحكم عن محله، وغياب البُعد الزماني، والمكاني في تنزيل الحكم الشرعي على الواقع. ومثل هذا التوجيه، سيكون له أثره المحمود على النظر الاجتهادي في النوازل، والمستجدات التي تعنّ للناس من حين لآخر، - إضافة - إلى قدرتها على التكيُّف مع المستجدات التي لها صلة بالفعل الاجتهادي، والحضاري للأمة المسلمة.
بقي أن يقال : إن دين الله يسع الجميع، فهو قائم على العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله على بصيرة. ثم إن قيماً أخلاقية يجب احترامها، والعمل بها، كتقبل الاختلاف، واحترام التنوع، وقبول الآخر، ورفع لغة الحوار، بعيدًا عن لغة الصراع، والتخوين، ورفضاً للانجرار نحو العنف، والاستدراج إلى منزلقاته.