بين سباق الهجن والخطابة والتراث والثقافة تتوزع هذه الأيام مهام وأنشطة وفعاليات الدورة التاسعة والعشرين للمهرجان الوطني للتراث والثقافة «الجنادرية»؛ لتتحد في هذا المضمون صور الالتقاء والحوار بين الماضي والحاضر ممثلاً في تفاصيل كثيرة، ومشاعر غامرة بعودة هذا الضيف الطريف الذي يحل في هذا الوقت من كل عام محملاً بألق الماضي، وأرث الأهل والأجداد.
«جنادرية..29» تنظمه وتشرف عليه ـ كما هو معتاد ـ وزارة الحرس الوطني، وتسعى من خلال هذا التراكم الزمني للمهرجان الذي يناهز ثلاثة عقود إلى أن تربط ماضي الأهل والأجداد بحاضر الأمة ومستقبلها، متيقنة بوصفها جهازاً له الخبرة والدراية بمثل هذه الأنشطة أن تصبح هذه المناسبة حالة جمالية فريدة، يمتزج فيها البحث عن مضمون الماضي وتفاصيله بما سواه من تطلعات معنوية ترسخ مفهوم التفاعل الوجداني بين التراث ومرتاديه.
فالقرية التراثية على أرض الجنادرية تشهد في كل عام حضوراً متميزاً، ولاسيما أن جميع مناطق المملكة تشارك فيه، وتقيم مناشطها وطروحاتها من خلال البيت التراثي لكل منطقة في هذا المكان العابق برائحة الماضي وتفاصيل الزمن الجميل؛ لتتشكل في هذا الحضور الوجداني والمعنوي الكثير من الصور المعبرة التي يقبل عليها الناس بشكل لافت.
فلا يمل المتابع أو الزائر لأرض هذا المهرجان الوطني في كل دورة من إعادة تأمل هذا التراث وملامحه، وما يمكن أن تضيفه هذه اللجان من جهد متواصل لتدعيم ما هو قائم، وإضافة ما يمكن أن يضاف من تفاصيل الماضي ومشغولاته، ومقتنياته؛ ليكون أمام الزائر فرصة للتعرُّف على هذا الوجه التراثي البسيط والمعبر عن حياة الأهل والأجداد الذين تفتقت أذهانهم عن إنجازات عظيمة رغم بساطة حياتهم، وتواضع إمكاناتهم.
فحينما نتأمل الماضي الحرفي ونحن نتجول في القرية الشعبية ندرك أن هؤلاء الأسلاف يملكون من الموهبة والبصيرة ما تعجز عن وصفه الكثير من الكتب والمؤلفات؛ إذ يعملون ومن خلال مقتنياتهم البسيطة، وأعمالهم اليدوية اليومية، على أن تكون ذات طابع جمالي مشرق وأخاذ؛ وخير دليل على ذلك ما يقدمه الحرفي الناجح والموهوب حينما يصمم باباً خشبياً يعرف أنه مجرد باب خشبي، سيوضع على مقدمة غرفة، أو دار، أو منزل، إلا أنه يستشعر قيمة هذا المنجز بفطرته؛ ليقوم بصقله وتلميعه وتلوينه بخطوط مدهشة ومتناسقة، ليُكَوِّن في هذا الجهد البسيط لوحة لا تمل من تأمل تناسقها، وجمال ألوانها.
ونقيس على هذا المثال الحرفي البسيط والجميل أشياء أخرى لها علاقة باليومي والدارج من حياتهم ـ رحمهم الله ـ إلا أن ما يقومون به من جهد وعمل لا يخلو من إبداعات متميزة تنعكس على هذا العمل الذي يقدمونه في كل تفاصيل حياتهم ومشغولات أدواتهم، وحرفهم واحتياجاتهم.
بل إن هذه المنجزات الحرفية البسيطة، والمشغولات العفوية، والاحتياجات اليومية، حينما يعملون فيها ويتقنون تشييدها وصناعتها لا بد لها أن تكون مصاحبة بعطاء معنوي يرادفها، ويولد معها، على نحو الأهازيج التي تصاحب هذه الأعمال.. فلا تخرج أي حرفة إلى طور الكمال إلا ويكون لها معاضد معنوي على نحو حداء أو غناء أو ترانيم ترافقها إيقاعات مميزة لا نزال حتى اليوم نتمثلها ونستعيدها بشيء من الدهشة والتأمل.. كما نفعل هذه الأيام تماماً حينما نتجول في قرية «الجنادرية».