يرسم الشاعر خالد المجيري تفاصيل الإنسان المحمل بالأمل من خلال ديوانه الجديد «أنثى الحجاز» حيث يُعدُّ الشاعر العدة منذ أول بيت فيه إلى أنه يروم المودة، ويسعى للوئام ويرنو للصفاء وعودة الحب إلى سابق عهده. فهذه هي رؤية الشاعر الحقيقية التي يمكن لنا أن نستبطنها من خلال هذا العزف الشعري الجميل على مقامات حب الحجاز وأهله.
فمن المقدمة الرقيقة للديوان يلج الشاعر خالد المجيري إلى عوالم الأنثى التي تعد هي المحرك الأول وهي الفكرة الرئيسة التي تدور عليها مفاصل العمل الشعري، فلا أجمل من فكرة يبتكرها في أول قصائد الديوان (بعدت عني) أي أن الفكرة المحورية هاجس إنساني عام، ومطلب شخصي أو ذاتي نتأمله بمتعة فائقة حينما يدوزن الشاعر كلماته على مقامات الحب:
«متسربل كل القوافي غارق
في بحر شعر والحبيب بعيد
أبكيه ساعات وأغفو ساعة
وأراه في جسمي السقيم يسود»
لغة الديوان تنهل من معين القاموس الشعري التقليدي والواقعي إذ يسمي الشاعر المجيري الأسماء بمسمياتها من أجل أن تكون كل قصيدة محملة على جرس لغوي واحد يتقنه الشاعر، بل إن لغة الخطاب متوازنة في استلهامها للصور الشعرية التي تتساوق من خلال لغة الوصف للمشهد الذاتي الذي تدور مفاصله على الهم الداخلي، فلا يلبث طويلا إلا ويلامس هموم العالم من حوله.
تسجل اللغة في هذا الديوان حضورها المشرق وتماسكها الجميل. فتجد في القصائد صور مرتبة، وجملا مفعمة بأساليب الطرح الشعري، فالرسالة التي ينقلها الشاعر أو يتصدى لها عادة ما تكون ملهمة له لأن يقول المزيد من الكلمات المعبرة، وحتى إن كانت ذات طابع خاص فإنها تؤكد على أن الشاعر معني بلغة الجمال الذي سيشع على الخلائق والأمكنة ليصوغ قصيدته على نحو شفيف:
«ما قيمة الأسرار لو ذعنا بها؟
ما زلت أحفظ للهوى أسراره
أبقيك في اسمي وأنت حبيبتي
ويظل حفظ الذكريات حضارة»
تفاصيل الحياة تتألق في ديوان الشاعر المجيري، فلا يجد غير الشعر من يناجي به وهج الجمال الروحي في مدن وجبال وأماكن تحفظ للروح وهجها وعناده في وجه مثبطات كثيرة، فهو الذي ينتقي للقارئ أطرافا من خطابه الجمالي، حيث تسكن الأرض في أعماقه، أو قل عنه المكان الذي يشع نظارة وماضياً وحناناً على الشاعر على نحو «الحجاز» الذي يحوي بين تضاعيفه أرق ما يمكن أن يصفه ويدونه وهي أنثى الحجاز، حيث يثير الشاعر مكمن الحب والجمال ويعهد للشعر والقوافي أن تنهل من معين هذا النهر الوجداني المتدفق الذي لا تخطئه عين، ولا تفارقه ذائقة تعشق الجمال:
«من جمال الفجر والسحر الحلال
تقطف النجمات تنثرها عليّا
من حجاز الحب من أرض الدلال
ظبية تلبس شالا مخمليّا»
فالشاعر بحق معني بما يقوله من شعر وبما يترنم فيه من وجد لاعج يسكن القلب المفعم بحب الأرض وأهلها، فالرؤية هنا حالمة رغم واقعيتها، ورقيقة رغم قسوة الزمن عليها.. فذاك هو الشاعر الذي ينهل من معين حب قمين بالبقاء وحري بالجمال.
تميل قصائد ديوان «أنثى الحجاز» إلى الإيجاز، وعدم الإطناب حتى إنها تراوح بين التوسط والقصر رغبة مؤكدة من الكاتب أنه لا يريد أن يطيل على القارئ؛ لأن الفكرة التي يختطها للنص واضحة ولا تحتاج إلى إطناب أو استرسال مما جعل الديوان رشيقاً في حضوره، وسلساً في تمثلاته الشعرية لأبرز ما يعانيه الإنسان في هذا الزمان الذي وجد الشاعر فرصته في أن يقول ما يريده بأسلوب شعري متميز، ورؤية واقعية للمنجز الحياتي الذي بات يتهاوى تحت أقدام المادة، حتى إن الشاعر ومن حوله من شعراء مطبوعين ومجبولين وملهمين أخذوا على عواتق قصائدهم محاولة البقاء في وجه التغيير والانحدار .. فيكفيهم من الشعر جماله ومن المحاولة شرفها:
«ما الحب إلا أحاسيس تحاصرنا
وحبر حرف ودمع بات ينسكب
وأن أقسى عذاب قد أواجهه
فراق من ليس لي بعده أرب»
الخطاب الوجداني في هذا الديوان يسجل حضوره وكأن كل قصيدة فيه تؤكد ما قبلها، فهي بمثابة مويجات تدفع بعضها بعضاً لتُكَوِّنَ لها الرافد الشعري المتدفق شعورا بأن الحب لا يزال حياً، ينوس ضياؤه الآفاق والخلائق والأمكنة، بل هو إحساس جميل ومغرٍ يجد له من يطلبه ويجدُّ بطلبه.
** ** **
إشارة:
- أنثى الحجاز (شعر)
- خالد آل مجيري
- دار الكفاح الدمام ـ 1434هـ ـ 2013م
- يقع الديوان في نحو (238صفحة) من القطع المتوسط