طالبان في الخطاب الثقافي السعودي..
التورية عند أهل اللغة أن تحمل كلمة أو جملة قصدين أحدهما أقرب للأذهان وهو غير المقصود، بينما المقصود هو المعنى الثاني، وقد تكون الغاية منها إثارة الذهن بأسلوب غير مباشر، أو في حقيقة الأمر الهروب من المواجهة مع المقصود بالتورية، ومن ذلك عندما يستبدل الخطاب الثقافي السعودي المقصود المباشر في مواجهته مع التطرُّف الديني المحلي بطالبان، فالمعنى الظاهر أنّ فكر طالبان هو مصدر إنتاج التطرُّف الديني، ثم انتشاره محلياً.
بينما يدرك الجميع أنّ طالبان التي يتكلمون عنها لم تكن إلاّ تلك الحركة الدينية المتطرِّفة، والتي استمدت بعض تعاليمها من عمق الحراك الديني المحلي، والذي كان من نتائجه طالبان وغيرها من الحركات الدينية المحافظة لدرجة التجمُّد في مختلف الأمصار، والتي تكاثرت بسبب تصدير الفكر المنغلق من الجزيرة العربية إلى خارجها، ويواجه المجتمع بسببه صراعاً مدنياً دينياً غير مسبوق بعد الانفتاح الحضاري في العقود الأخيرة، وربما لن يتوقف الصراع بدون نقد ذاتي داخل المرجعيات الدينية المحلية لخطابها الديني المتشدِّد، والذي لم يتغيّر منذ قرنين من الزمان.
لا أعلم لماذا نحاول الهرب من المواجهة، فالمجتمع السعودي يقع تحت سيطرة العقل الديني لدرجة يصعب تغييرها في ظل نظام التعليم الحالي، فالمقدس في عقول الناس أكبر بكثير من المقدس الديني في أصوله الثابتة، ويتحكم فيه بشكل أحادي ما بناه «المطوع» خلال عشرات السنين، وما قدمه للناس على أنه الدين الحنيف، وما أضافه من اجتهادات تفوق الأصول الثابتة والقطعية في الدين، ودائماً ما تغيب المقولة الصائبة أنّ الرأي الفقهي اجتهاد غير ملزم، و لا يمثل إلاّ رأي صاحبه، بينما تحضر بقوة مقولة من خالف هذا الرأي فقد خرج عن الملّة.
وصل التحكُّم بعقول الناس لدرجة التشنُّج عند إثارة أي حوار ديني، بل وصل الأمر أنهم يرفضون الدليل القرآني الصريح، إذا لم يصرح به المطوع، لذلك كانت العبارة النجدية الشهيرة «خل بينك وبين النار مطوع « معبّرة عن الاستسلام العقلي التام لما يقوله المفتي المحلي، ولهذا السبب أصبحت فئة كبيرة من المجتمع تحت سيطرة تامة لرجل الدين، ومعلولة بالإحجام عن تفعيل ما وهبها من عقل في مهام التفكير الإيجابي.
تعزو سيطرة الخطاب الديني المتشدّد إلى القيام بدور المتطهّر من الخطايا، وإلى إرجاع أسباب الفساد المالي والإداري للآخرين من خارج الدائرة الدينية، واعتبار الحكومة، في إقرارها للاختلاط والاقتصاد الرأسمالي وتعاطيها مع المفاهيم الحديثة، في حكم المخالف للدين، والخارج عن تعاليم المرجعية الدينية، ويساهم في إذكاء تلك النظرة المتطرّفة اعتبار الإعلام الحديث باختلاف أوجهه من الفساد الموجب لحد الحرابة، ولهذه الأسباب على وجه التحديد خرجت ظاهرة التكفير، وتم تجنيد الشباب من مختلف الأعمار للاقتتال والتفجير داخل البلاد وخارجها، فكانت النتيجة طالبان وظهور فكر القاعدة المتطرّف وانتشار التطرّف، وكان الخاسر هو الدولة والمجتمع السعودي.
لقد تم تحصين عقول العامة بأسوار عالية وخطوط حمراء، حرّاسها الفتاوى وأحاديث الآحاد، وقد جعلت منهم يعيشون في حالة من الرهبة، إن حاول أياً كان أن يشرح على سبيل المثال أنّ حديث الآحاد ليس قطعيّ الثبوت مثل القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وأنه ظنيّ الثبوت وعدم القطع بوجوب العمل به، وأن ما يحدث أدى إلى استبعاد للعقل والعلم، برغم من أنّ ذلك يخالف القاعدة السنية الشهيرة التي تقول (لو تعارض عقلي قطعي مع نقلي ظني يُقدم العقلي)، ولما قاله ابن تيمية في درء التعارض (إن كان مظنوناً أمكن أن يكون في العقل علم ينفيه, وحينئذ فيجب تقديم العلم على الظن لا لكونه معقولاً أو مسموعاً بل لكونه علماً).
خلاصة الأمر تعود أسباب التطرُّف الديني المحلي إلى منهج تقديم الفتاوى وأخبار الآحاد على أنها قطعية الثبوت والوجوب وإن ثبت غير ذلك علمياً، وأدى ذلك إلى اتساع الدائرة المقدسة بآلاف الأضعاف عن صدر الإسلام، مما جعل من العقل المسلم يعيش في حصار من القدسية المتطرّفة، وبالتالي تعطّلت ضرورة إعمال العقل في إصدار الأنظمة المدنية وفي البحث عن الحقيقة العلمية في كل اتجاه، وهو ما قاد في نهاية الأمر إلى خروج مجتمعات متطرّفة سواء في الداخل أو الخارج، كان آخرها حركة طالبان وغيرها، وليس العكس، والله المستعان.
