تتعرض التيارات الإسلاميه إلى ضغط سياسي وشعبي من أجل التخلي عن خيارات التطرف والعنف، وقبل ذلك أن تتوقف عن احتكار الدين في الخطاب السياسي، لكن ذلك التوجه لم يكن خاصاً بالتيارات الإسلامية السياسيه، فأغلب التيارات السياسية بمختلف ميولها عملت على دغدغة عواطف المواطن المغلوب على أمره من خلال الدين، وقدمت نفسها على أنها تحظى بحماية العناية الإلهية في خياراتها السياسية، بل وصل الأمر إلى أن يدّعي البعض أنه مرسل من السماء لإنقاذ الشعب من الهلاك، ولن نحتاج إلى طرح أمثلة، فمختلف الأنظمة العربية استخدمت الدين، إلى درجة أن رفع بعض الطغاة العلمانيين كلمة الله أكبر في حروبهم ضد جيرانهم.
لكني مع ذلك أجد في إدانة فوضى الاقتتال خارج الحدود اتجاهاً في الطريق الصحيح، وقد كان له عواقب وخيمة داخل المجتمعات الإسلامية، وقد ساهم استغلال هذا الفكر في فترات سابقة في تقديم صورة دكتاتورية واستبدادية عن الإسلام، وإلى خروج مظاهر تبرز فيها الفحولة المقدسة التي تصل إلى درجة الفخر بالجريمة السياسية، ويظهر ذلك في الخطاب الطائفي المتعصب، وفي خطابات بعض الدعاة، كذلك يتضح في شرعنة ذبح المخالفين، وذلك لم يأت عبثاً، ولكنه جاء بسبب تغييب الخطابات الثقافية المعتدلة، وقبل ذلك التأخير في عمليات الإصلاح، التي تواجه تحديات أقرب للمستحيل.
ما يحدث من تضييق للخناق على التيارات الإسلامية السياسية فيه صالح لأتباعها وللمجتمعات العربية، وذلك لدفع تلك التيارات لمراجعة أساليبها التقليدية وخطابها الذي يحرّض في بعض أوجهه على العنف، ودراسة أخطائها وكوارثها السياسية، ومن ثم تطوير وسائل التواصل مع المكونات الأساسية للمجتمع، لأن ما تقدمه من خطاب أصولي لعقول الشباب قادهم للتهلكة في سبيل حروب الغير، فقد كانوا بمثابة الوصفة المقدسة التي تجعل من الإنسان فاقداً للبصيرة لدرجة الهلاك، مما جعلها وسيلة لمن لا وسيلة له، وبالتالي تحولت إلى سلاح خطير يتم توجيهه كيفما شاءوا ضد الأعداء، ويستخدمه المحرضون من أجل تهديد المجتمعات الآمنة.
ستكون التيارات الإسلامية أمام امتحان في المستقبل القريب، فحواه محاولة الوقوف مرة على القدمين، وتنزيه الدين من دنس السياسة، واستخدام الخطاب المدني الذي لا يفرق بين المواطنين على أسس طائفية أو طقوسية دينية، وسيكون ذلك التحول بمثابة التحول التاريخي الأهم في تاريخ العرب، ولن يعني التخلي عن المبادئ الإسلامية، ولكن الإقرار بحقوق الآخرين في العيش تحت مظلة المساواة والتكافؤ، وتعتبر تركيا رائدة في ذلك التحول، بعد ما نبذ الإسلاميون فكرة الإقصاء على أسس طائفية، كذلك تنبئ التجربة التونسية بمستقبل مشرق في قضايا الحقوق والمساواة.
ومع ذلك لا يمكن بأي حال إغفال حقيقة أن ما وصلنا إليه في الوقت الحاضر لم يكن وليد الحاضر، إنما له جذور وأصول في الحراك الديني السياسي خلال العقود الماضية، التي وصلت إلى درجة إخضاع الدين للمصالح السياسية، فقد استغلت الأنظمة العربية والغربية فكرة الاقتتال على الطريقة الإسلامية في زمن الحرب الباردة، وساهمت في انتقالهم بالآلاف إلى ساحات القتال، وقد كان رجال وعلماء الدين بمثابة الدمى التي يتم تحريكها حسب التوجه السياسي في أزمنة غير بعيدة، كذلك كانوا وما زالوا أول ضحايا التغيير في المتغيرات الكبرى، ويأتي ذلك بسبب عنجهية المنهج السياسي الإسلاموي، والذي ما زال يقدم رؤى تقليدية عفى عليها الزمن وقابلة للاستغلال، ولنا فيما يحدث في أفغانستان والصومال والعراق أمثلة على ذلك.
لذلك أرجو عدم إلقاء الأمر برمته على كاهل الشباب المغرر بهم، لأنهم بالفعل كانوا ضحايا لأكثر من جلاد، فقد ساهمت بعض الأنظمة العربية في خروجهم بتلك الصورة المشوهة للإسلام، واستغل بعض الدعاة تلك الفسحة الرسمية إلى تكثيف نشاطهم الدعوي، لذلك قبل ذلك يتوجب علينا إعادة تقييم الأفكار التي نؤمن بها وما زلنا نروج لها في تاريخنا الحديث، بل مراجعة ما نحاول تسويقه من خلال الفهم الخاطئ للفكر السلفي، الذي يحمل في بعض من جوانبه الدعوة لجهاد الطوائف الأخرى وقتال المخالفين.
في جانب آخر يجب أن تدرك الدول العربية قبل فوات الأوان أن تأخير الإصلاح الاقتصادي والسياسي ساعد في دفع هؤلاء الشباب إلى البحث عن ذاتهم في ميادين القتال في كل مكان، ولو تم استثمار الأموال في تأسيس المدن الصناعية الكبرى، واستغلال طاقات الشباب في المصانع والشركات الكبرى، لرفضت تلك العقول دوغمائية الذبح والتفجير، ولأستبدلوها بالعلم والمعرفة والإنتاج، ولم يتحولوا إلى قنابل قابلة للانفجار.