يُحبر الشيخ الشريم تلاوة آيات الكتاب من قلبٍ صادق رقيق لم تصبه - والله أعلم - خائنة قط.، تغريدة الشريم «هذه ورقات لكل متكئ على أريكته يرتشف شاياً وقهوة ولم تُشيبه المنابر ثم يوصي بلجنة تدقق خطب وقنوت أئمة الحرمين الشريفين»، فيها أثر الخيال الإسلامي الذي هو الحاكم على غالب كتابات المسلمين وأفكارهم وأفعالهم وليس مختصاً بالشريم. فهذا الخيال يتصوّرونه ثم يصدّقونه ثم يتعاملون معه وكأنه حقيقة، حتى ولو كان فيه سخرية أو تحريف للشريعة أو شرك. وأقرب مثال نعيشه لتطبيق الخيال على الواقع هو الصيرفة الإسلامية.
وعودة إلى تغريدة الشيخ الشريم فلي معها وقفات:
1. إنّ عبارة الشيخ ظاهرها فيها كبر وعجرفة وخيلاء وتزكية للنفس بالتقوى والصلاح، واستحقار للغير، وحاشا هذا التقي النقي أن يقصد ذلك، ولكنها قصدي أنها شنشنة نعرفها من كثير من غيره ممن غرّهم استسلام الناس لجهلهم واتباعهم لهم، وقال عليه السلام عن عيينة رضي الله عنه «أحمق مطاع في قومه».
2. إنّ من يستحق وصف شيبته أعواد المنابر هو الذي يخطب تحت الهول والمخافة بفكر جديد أو ببيان حق مسلوب فيُحيي الله به أُمّة ويعز به قوماً ويدفع به البلاء. فذاك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذاك عبد الله بن الزبير تحت باب الكعبة وذاك طارق بن زياد من فوق الصارية وذاك بن تيمية تحت خفقات رايات قتال المغول والنصيرية، وبين يدي جبابرة ملوك التتر. وذاك ابراهام لينكون الذي هز أعواد المنابر حتى جمع العالم على شرعه الذي أنهى الله به الرق وظلمه ومآسيه وألقى به في مزبلة التاريخ، - ولم يرتض العالم ويجتمع على تشريع قط إلاّ على تشريع لينكون. وذاك كينج الذي خطب بدمه مُخبراً بحتمية قتله لتحقيق حلمه بعزه قومه، فكان له ما أراد. وذاك غاندي وذاك مانديلا. هؤلاء من شيبتهم أعواد المنابر، لا من يقرأ خطبة مقتبسة من هنا وهناك يدبجها ببعض السجع.
3. الوصاية على العقول تقتل الإبداع وتشل الفهم العام، سواء كانت في صورة تقنين الخطبة أو في غيرها، فالوصاية على العقول لا خير فيها مطلقاً. ولا أعتقد أنّ المقصود بالتقنين هو فرض الوصاية، ولكن لعل المقصود هو تجديد النظر في هذه الورقات التي أشار إليها الشيخ في تغريدته، وهذا مطلوب بعد التغيرات الحديثة في العالم الإسلامي. ولكن من الذي أتى بفكر الوصاية على العقول والألسنة والهوى والذوق، وتسلط بالتحكم في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس؟ أليس هم فقهاء القرون الوسطى ومن تبعهم إلى اليوم؟ أليس هذا ما تهتز به أعواد المنابر اليوم؟.
4. تغريدة الشيخ دليل على صحة وجهة نظر من وصى بإعادة النظر في الضوابط. فتغريدة الشيخ ما هي إلاّ زلّة أدبية لا يقصد الشيخ مضمونها ودلالاتها. وما أكثر زلاّت الخطباء ومن تلبس باللباس الشرعي. ولذا ترى أنّ أكثر من تلبّس باللباس الشرعي يتدثّر بالصمت، يوهم الناس بوقاره وما هو إلاّ مدرك أنه إذا نطق كشف عن سطحية فكره وقلة علمه. ألا ترى فقيه واقعهم يحدث بسمن أسماك الفرات من أكلهم لجثث الأمريكان. وفقيه اقتصادهم يحدث باستعانة الاقتصاد العالمي بهم، فالله المستعان على أُمّة تتخذ من هذه العقول علماء لها.
5. حشو الكلام بالعبارات الضخمة الرنّانة التي ليس لها شاهد في سياقها، ولا لقائلها نصيب منها، هي الديدن في الوعظ وفي الخلاف وفي القذف وفي الاتهام. وقد سُئل الشيخ بن منيع في صحيفة سبق الإلكترونية عن رد علمي على حمزة السالم، فقال هذا يهذي هذياً في الربا وفي غير الربا. وهكذا قالت قريش، وهكذا ذكر القرآن أصحاب السبت وذكر نبيه جمل الشحوم، فالحمد الله وكفى به خصيماً. ففي عظم العبارة أو شدّتها على المخالف عامل قوي في التأثير على عقول العامة وقبول الطرح وكأنه قد سُند بالحجج والأدلة.
وحاشا الشيخ الشريم عن أي من هذا وأقولها والله صادقاً غير مجاملٍ، ولكنه مخالط لقومه فأخذ من حديثهم كما يأخذ الوليد من لهجة قومه. ومقصد مقالي هو الحديث حول عموم البلوى لا خصوص تغريدة الشريم. ففي هذا الموقف بعض ما يوضح ما دخل على الدين من تحريف وتغيير، ومن ذلك أخذ بعض الأقوال غير المقصودة للفقهاء والصالحين وجعلها ديناً, ومن ذلك عنجهية بعضهم، ومن ذلك غلبة الرؤيا الحالمة والخيالية على الفكر والقول والفعل عند المسلمين.