قد نختلف في التصور والعلاقة بمهرجان الجنادرية طوال تاريخه الطويل، وقد تتفاوت الإجابة عن أهداف المهرجان وأغراضه، هل هو للثقافة أو للفنون أو التراث والتاريخ والإبداع؟ أم هو لكل هذا؟ ومهما تكن الإجابة عن السؤال خاصة أو عامة إلا أن المهرجان كان نافذة بهجة وطنيَّة وثقافيَّة حتَّى في أشد الأوقات التي كان فيها «التطرف» يشتد، والصحويون يستعرضون نفوذهم الاجتماعي، ويحاولون عن سبق إصرار وترصَّد ونية مبيتة اغتيال كل البهجة في البلاد، والعمل بجهد في كلِّ المساحات المتاحة على «تغيب البسمة»، وحتى في أشد الأوقات صعوبة حين كان «الإرهاب» يضرب الوطن ويروع ويغتال الحياة، بقيت الجنادرية الرمز الفني والثقافي تظاهرة حية تتجاوز الواقع بكلِّ تجاذباته وتردده. مسيرة المهرجان الوطني سارت طوال الثلاثة عقود الماضية بالرِّعاية والدعم من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، الذي يرعى غدًا الأربعاء حفل افتتاح الدورة التاسع والعشرين والذي تنظمه دائمًا وزارة الحرس الوطني.
قد يأتي بعض النقد لفعاليات المهرجان الوطني الأهم من متخصصين هنا وهناك، لكنه أثبت دومًا قدرة على الاستمرارية والتواصل والتنوع وجذب جمهور عريض، ولفت نظر الإعلام محليًّا وإقليميًّا.
حدثت بعض المحاولات لنشاطات ترتبط بالتراث، لكنها لم تحقق حضورًا مطلوبًا بل قد تكون تحوّلت إلى بعض السخرية نتيجة سوء التنظيم والمبالغات الزائدة، أو بسبب حدود ضيقة للعصبية، أو المناطقية ونحوها.
إلا أن تجربة مهرجان الجنادرية لعقود أكَّدت أن التراث - كما التاريخ - يصبح احتفاليًّا وثقافيًّا يحرّك القديم للمستقبل، فما كان يطرح من فعاليات ونشاطات ثقافية كانت تتنافس في المضمون والشكل، وها هي نسخه الأخيرة تتنافس لنشر الفرح والبهجة في مهرجان يجمع الأفراد والعائلة حول الفنون والثقافة والتراث وفي بيئة محافظة.
لكن رغم هذه المحافظة ظلَّ التيار المتطرف والساعي باستمرار بتوجيه وتكتيك رموزه الحزبيين باحثًا عن التصادم مع المجتمع، حتى في النشاطات الفكرية والفنيَّة وتحت رعاية رسمية! لكن ما يحسب لمهرجان الجنادرية كمشروع - وقد يكون هو الوحيد- صموده واستمراريته رغم كل المحاولات لتحجيمه عبر شعارت «الاحتساب» و»رعاية الفضيلة» ونحوها من الصياغات التضليلية من صناعة الحركيين الذين يريدون فرض الوصاية واستعراض قوتهم ونفوذهم أمام المجتمع وضد الدولة، في رسائل أصبحت مكشوفة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى.
هدفهم باستمرار البقاء في بيئة مغلقة، منعزلة وبسيطة في ثقافتها ووعيها، ودون تنمية فكرية أو المزيد من الأمية الثقافية، ومنع أيّ محاضرة، أو نشاط - ولو كان تقليديًّا خارج خطبهم ودروسهم الحماسية، ورفض قاطع لأي فكرة تنويرية، قد تسحب الوعي العام خارج التلقين والتدجين الحزبي والحركي، من أجل أن يسهل عليهم تحقيق أهدافهم.
إلا أن المهرجان الوطنى الذي يقترب من عمره الثلاثين، بقى هو الحجر المحرك لكل المياه الراكدة، واحسبه كذلك إلى اليوم، في دورته الحالية الجديدة التي تفتتح غدًا في أجواء أفضل من السابق وأكثر تطلعًا للفرح والبهجة والحوار.. وأقرب للوطن.. لكل الوطن.