رجل هادئ منكب طوال الوقت على أكوام من الورق بلا نهاية. كم هائل ومتدفق من الأخبار، والتقارير والتحقيقات الصحفية، يتولاها بلا توقف، قبل أن يدفع بها لتملأ صفحات جريدة اليوم التالي!
يعمل على أصول المهنة وفي قلب مطبخها الصحفي، دون أن تغريه أضواؤها، رغم وصوله لمنصب نائب رئيس تحرير جريدة الرياض، ثم رئيس تحرير جريدة الجزيرة.
عند دخولي الأول لجريدة الرياض صحفياً متعاوناً في مرحلة الدراسة الثانوية، وكنت قد اتصلت بالجريدة أسال عن كيفية الالتحاق بالنشر والكتابة، كان من حظ مكالمتي المتأخرة والمترددة -أيضاً- ذلك المساء أن حُوِّلت إلى رئيس التحرير المناوب!
كان هو ذاته الأستاذ الصحفي محمد أبا حسين. وعلى الفور، وبعزيمة فاقت عزيمتي، طلب منى الحضور مساء اليوم التالي. وصلت قبل الموعد بساعة، أو ربما أكثر. ذهبتُ لمكتبه، لكنه لم يكن مكتباً؛ كان (دسك) طاولة مكتبية طويلة لتحرير الأخبار، يجتمع عليها المحررون من كل أقسام المحليات والاقتصاد ومديرو التحرير. لم يكن المدير المناوب قد وصل بعد.
حينها التقيت الزميل سلطان البازعي، ومن هناك انطلقت مع الخبر والتحقيقات المحلية. كان ذلك بداية التسعينيات الميلادية (وتلك قصص سأتلوها في كتابي التالي عن تجربة شخصية في الإعلام السعودي داخلياً وخارجياً).
خلال الأسبوع الأول التقيتُ الأستاذ محمد أبا حسين، مدير التحرير. عرفت ذلك لاحقاً! كان - وكما هو دائماً - هادئاً متواضعاً، بخلق استثنائي؛ بالكاد تسمع صوته، كمعلم راقٍ بخلق نادر في مهنة صاخبة!
بعد نحو سنة من دخولي مبنى الجريدة بحي الملز بالرياض، دعاني وعرض علي فكرة العمل معه في صفحة يومية، تحكي عبر الجريدة تجربة تنموية بأسلوب توثيقي. سعدت بالتجربة والفرصة مع قامة مثله، وانطلاقنا في العمل نحرث الأرشيف الورقي وأعداد الجريدة القديمة لأكثر من عامين دون توقف.
تعلمتُ من الأستاذ الراحل الكثير مهنياً. من أول ما تعلمته منه دون أن يتحدث كثيراً أمرٌ مهمٌّ يتعلق بالعمل، وهو العمل ذاته، وقيمة الإنجاز..
«مهما كانت الفكرة هناك طرق لإنجازها، لكن التميز في العمل الصحفي هو ما يخلق الاختلاف..!».
لمحمد أبا حسين طقوس في العمل الصحفي، تتعلق بالوقت، وبشخصيته المهنية المنتجة بعيداً عن الأضواء في الغالب، لكنه لا يكل ولا يمل.. وكثير من الأسماء الصحفية السعودية تعرفه جيداً، وأكثرهم لا بد أن يكونوا قد حصلوا منه على دعم أو توجيه مهني بأسلوب استثنائي.
أستطيع أن أروي الكثير، لكن سأُبقي لذاكرتي ولكتابي بعض التفاصيل.
لكن الأهم الذي لا أزال أكرره دائماً، وسأفعل، هو أنني وقبل الذهاب للولايات المتحدة لدراسة اللغة ثم الإنترنت والمعلوماتية منتصف التسعينيات الميلادية، ومع بداية دخولي للجامعة تحديداً، ساعدني وحثني، بل «كفلني» لشراء جهاز حاسب بالتقسيط الطويل. كان ذلك هو الدفع الأول للدخول المبكر لعالم الكمبيوتر، وقبل أن تصل الإنترنت.
ولا أتذكر هل أوفيتُ بالتزامي المالي أم لا!..
لكن الجهاز المركب كان مكلفاً.. إلا أن الثمن يستحق..
كما تستحق معرفة الرائعين؛ إذ تشعر معها بأنها هبة أو حظ؛ لتضيف لنا قبساً من علم ونور..
غبتَ عنا لوقت.. واخترتَ العمل الحُرّ، وقصرنا..
ثم جاء آخر الأخبار المحزنة.. خبر رحيلك..
ولم نودعك بعد..
رحمك الله يا محمد أبا حسين..
بالحب والخير والعطاء المعرفي الجميل تنير سيرتك.. وستبقى..