فجّر الاختلاف حول شرعية الدعوة للجهاد في الحرب الدائرة في سوريا أزمة محلية، وربما حان الوقت لتناول حقيقة دعاوي الجهاد في العصر الحديث، والذي أصبح بمثابة السلاح الذي يوجِّهه بعض الدعاة كيفما شاءوا، أو بمعني آخر قد يكون ذريعة لاستباحة دماء المخالفين، أو كأداة ضغط سياسية من أجل مزيد من المكاسب الفئوية، وقد كان المجتمع السعودي في يوم ما ضحية لفتاوى الجهاد السياسي، وذلك عندما فجّر بعض الجهاديين العائدين المجمعات السكنية، لتبدأ حملة المناصحة الشرعية، لكنها لم تعالج القضية من أساسها، وكانت النتيجة محاولة إعادة توجيه أهدافها، وهو ما يجعل الخطر الجهادي محتملاً في كل الأوقات..
لكن السؤال الأهم هل ما يحدث في سوريا هو جهاد بين المؤمنين والكفار؟، أم هي حرب أهلية بين القوى الثورية الشعبية، وبين الحكومة المستبدة بالأمر والمستبيحة لدماء المواطنين وأعراضهم وأموالهم !، لماذا يحاول البعض التعامل مع سوريا على إنها دار حرب بين المسلمين والكفار، في حين أنها حرب مدنية، هدفها فرض مبدأ تداول السلطة بين مواطنيها بغضّ النظر عن أي اعتبار آخر، والالتزام بحقوق الإنسان، وآليات المجتمع المدني، وليس الغرض إقامة دولة الإسلام التي تفرض الجزية على غير المسلمين، وتلزم المؤمنين بالطاعة المطلقة ..، لماذا يحاول البعض أن يعيدنا للخلف، وهو يدرك أنّ أمر الجهاد سلاح ذو حدين، وأنّ الجهاد في سبيل الله يختلف عن دعوات الجهاد السياسي.
على مدار العصور الإسلامية حدثت فتن لا حصر لها بين الطوائف، فكان البدء في الفتنة الكبرى، ثم حروب الخوارج ضد الإمام علي، وضد الأمويين، ثم دخلت الأمة في حروب بين الطوائف على مختلف اتجاهاتها، بين الدويلات السنّية والعلوية والشيعية، ولم يُطلق عليها حروباً بين المؤمنين والكفار أو ضد المنافقين، ولم يستخدم الفقهاء مصطلح الجهاد في الحروب بين الطوائف الأخرى، بل كانت تُدعى ثورات أو حركات أو خارجين عن الجماعة، مثل ثورات الزنج والقرامطة وغيرها، لذلك من الخطأ الجسيم أن توصف الحرب الدائرة بين النظام السوري وبين المعارضة الشعبية المسلحة جهاداً ضد الكفار، سواء من قِبل السنّة أو الشيعة،، ذلك لأنها ثورة ضد الاستبداد، من أجل الحقوق المدنية، وليس من أجل نشر الإسلام في بلاد الكفر.
نحتاج إلى إعادة دراسة فقه الجهاد، وهل يحق لأيٍّ كان أن يطلق دعوة للجهاد ضد الطوائف الأخرى، أو ضد المعارضين السياسيين، وهل الدولة الحديثة دولة المؤمنين فقط، أم أنّ الدولة الحديثة التي لا تفرّق بين مواطنيها على أساس طائفي أو ديني، أو حسب عقائدهم، وأنّ المخالفين يجب أن يعيشوا في الأوطان متساوين في الحقوق مع غيرهم، وأن لا يكونوا تحت تهديد سلاح التكفير، على سبيل المثال يوجد في المملكة طوائف مثل الشيعة والإسماعيلية والصوفية، فهل هؤلاء عند دعاة الجهاد الطائفي مواطنون أقل، أم هم غير مؤمنين؟ كذلك يحاول بعض دعاة الجهاد الطائفي تكراراً أن يرموا المثقفين أو المخالفين للتيار الأصولي المتزمّت بصفة المنافقين، وذلك لإدخالهم ضمن الفئات التي يستحق جهادها إما بالكراهية والإقصاء، أو بالسلاح، وتلك طرق تؤدي في نهاية المطاف إلى استباحة دمائهم.
يقوم بعض الدعاة بأدوار تجعل منهم في غاية الخطورة على المجتمعات والمفاهيم المدنية، وهم دائماً ما يقدمون أنفسهم على أنهم فئة مؤثرة في الشارع، فإنْ شاءوا أشعلوا فيه الفوضى، وإنْ شاءوا أخمدوها، مما يجعل من أدوارهم عرضة للمساومة في الأوقات الحرجة، وهو ما يدعو إلى مراجعة أطروحاتهم في الجهاد، وإلى تقديم رؤية فقهية للجهاد تلتزم بأصول الدين الحنيف في مسألة الجهاد في سبيل الله، وتجرم استخدامه ضد الطوائف الأخرى أو كسلاح سياسي في زمن الثورات السياسية المعاصرة، أي يجب وضع النقاط على الحروف لئلا يكون الجهاد ذريعة لانتشار الإرهاب الديني في المجتمعات الآمنة.
خلاصة الأمر ما يحدث في سوريا هو حرب أهلية طاحنة بين النظام المستبد وأنصاره من مختلف الطوائف، وبين ثوار الحقوق المدنية والحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وأنّ الموقف من تلك الحرب يدخل في مساندة الشعب المقهور ودعاة الحرية السياسية والحقوق الإنسانية التي لا تفرق بين المواطنين في المستقبل على أسس طائفية، وذلك من أجل الوصول إلى هدفها الأسمى لتأسيس دولة مستقلة لا تخدم مشاريع أقليمية معادية للعرب.