هل فكرت عزيزي القارئ يوما بمدى تأثير الصالونات الأدبية على الحركة الثقافية والمعرفية في العالم؟ هل تعلم أن الصالونات الأدبية كانت تحظى بشعبية وانتشار واسع طبق الآفاق..
هل تعلم بأنها كانت بمثابة جنة لعشاق الأدب والكتب حول العالم؟ وهل تعلم بأن العرب أول من عرفوا الصالونات الأدبية.. فما هي قصتها يا ترى.. كيف بدأت؟
وكيف ساهمت بإثراء الحركة الثقافية في العالم؟
يعرف الصالون الأدبي بأنه ملتقى لمحبي الأدب والشعر، يتبادلون فيه اطراف الحديث عن الأدب والشعر ومختلف القضايا العلمية والثقافية.
ويقال بأن أقدم صالون عرفه التراث العربي هو لسكينة بنت الحسين رضي الله عنها حيث عرفت بذكائها وفصاحتها وتقديرها للأدب والأدباء حيث كان يجتمع العلماء والفقهاء وأهل الادب واللغة، يتناقشون في مختلف القضايا التي كانت تشغل المسلمين حينها, حيث امتاز صالونها بالأدب الرفيع والعلم الغزير، واجتمع ببابها الشعراء يطلبون الإذن منها لينشدوها أشعارهم، وقيل إن الفرزدق وجرير وجميل اتفقوا في موسم الحج على الذهاب إلى مجلس السيدة سكينة يحتكمون إليها من يكون أشعرهم.
كما يعد صالون ولادة بنت المستكفي في قرطبة من أشهر الصالونات الأدبية التي عرفها التراث العربي.. حيث كان صالونا مشهودا راقيا بفنون الأدب ومزدهرا بضيوفه ورواده من الأعيان والشعراء أبرزهم الوزير الشاعر ابن زيدون الذي هام في حب ولادة وكتب فيها أجمل القصائد التي صنفت من عيون الأدب العربي.
ازدهار مجلس ولادة بنت المستكفي في الأندلس ساهم في وصول تلك الفكرة الى الغرب وتحديدا الى فرنسا التي أعطت اسم صالون حيث كانت يعرف قبل ذلك بالمجلس.. فراجت تلك الصالونات بين أوساط الطبقة المخملية الراقية فقط، ولم تصل شعبيتها إلى الشارع إلا قبل انطلاقة الثورة الفرنسية، حيث بدأت تلك الصالونات تأخذ منحا مختلفا, وتبدل الحديث المرهف عن الفن والموسيقى والأدب، إلى الحديث الجاد المشتعل عن السياسة والثورة حتى راجت تلك الفترة عبارة» ثورية الصالونات».. ما يعني أن الصالونات في ذلك الحين تحولت إلى منابر فكرية تدعو الى الحرية و المساواة والعدالة الاجتماعية.
أما القرن العشرين فقد شهد أشهر الصالونات الأدبية على الاطلاق وفي مقدمتها صالون العقاد والأديبة مي زيادة الذي أسس عام 1911 في مسكنها في شارع عدلي، واستمر حتى نهاية الثلاثينات، وكان رحبا فسيحا، وتأنقت في اختيار أثاثه، والصور المعلقة على جدرانه والتماثيل القائمة في أركانه.
وكانت تستقبل ضيوفها كل ثلاثاء، وتساعدها أمها بالترحيب بالضيوف، وتجلس في صدر الصالون تدير الحديث، وتوجه الكلام ومن حولها حشد رفيع المستوى فيه: إسماعيل باشا صبري، وولي الدين يكن، ولطفي السيد، والشيخ رشيد رضا صاحب مجلة «المنار»، وخليل مطران، وحافظ إبراهيم ، وعباس العقاد ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد شوقي وآخرون.. استمر صالون مي زيادة قرابة ثلاثين عاما, ثم بدأ العمر يتقدم بصاحبته، وأخذت الشيخوخة تزحف عليها واختطف الموت بعضا من رواده.
اليوم، يبدو أن الحديث عن افتتاح صالون أدبي أصبح متجاوَزا، وكأن دور هذه الصالونات قد انقضى، نظرا إلى وسائل الاتصال، التي أصبحت رهن إشارة المبدعين والمثقفين، إذ أصبح من الممكن التخاطب ليس فقط مع مثقفي الحي والمدينة، بل مخاطبة مثقفي العالم، بالضغط على زر واحد أو أزرار قليلة. ورغم ذلك، فإن هذه التواصلات، وإن كانت سريعة وعملية، فإنها تفتقر إلى شيء أساسي في التواصل، ألا وهي الحميمية التي تجمع محبي الادب في مجلس حقيقي بدلا من عالم افتراضي!
وعلى الرغم من أن محبي مواقع التواصل الاجتماعي يجدون فيه منبرا رائعا للتعبير والتنفيس, إلا أننا بتنا بأمس الحاجة الى الصالونات الأدبية اليوم أو ما يسمى بنوادي الكتاب, لتعيد الى الواقع حميمية الصالونات الادبية وتأثيرها التنويري على الفرد والمجتمع، على أن لا تلتزم النوادي بالمعنى المتعارف عليه سابقا أي أن أصحابها ينتمون الى الطبقة الارستقراطية، وتقتصر العضوية فيها على النخبة، بل تكون بابا مفتوحا للشباب وكل محبي العلم والأدب.. فشبابنا اليوم بأمس الحاجة الى ملتقيات ثقافية ذات طابع ممتع وخفيف بعيد عن التنظير والحشو, تتبناها بعض الجهات المعنية في السعودية لتنشر جواً ثقافياً راقياً ولتشعل جذوة العلم وترفع من معدلات الشباب المثقف الواعي المتمكن من أدوات تحضر ورقي الإنسان.. لكن من يبدأ الخطوة الأولى ويطلق هكذا مبادرة؟!