إذا سلمنا بأن الطالب عنصر مهم في برامج الدراسات العليا؛ نظراً لمبررات أهميته المتعددة المعروفة لدى المخططين الإستراتيجيين في الجامعة، فلا بد أن يمتد التسليم بأن له حقاً على القائمين على برامج الدراسات العليا في المساعدة بتقديم تسهيلات مسؤولة
عن سد منابع المشكلات التي تتسبب في استغراقه مدة أطول من المقررة لائحياً؛ لأن بقاءه مدة طويلة لأجل الحصول على درجة علمية معينة يشكل هدراً في الوقت والجهد والإمكانات، عليه وعلى الجامعة. ويتعاظم التسليم الأخير في برامج الدراسات العليا التي تأخذ بنظام المقررات والبحث معاً.
البحث العلمي في أي تخصص هو مجهود منظم يقوم به باحث متخصص لدراسة مشكلة في مجاله العلمي، ويتوزع هذا المجهود على مراحل عدة تبدأ بمرحلة اختيار الموضوع وتنتهي بمرحلة كتابة المراجع والملاحق. وتتطلب كل مرحلة شروطاً معينة؛ ليتم إنجازها بصورة علمية.
وتعد المرحلة الأولى من أصعب مراحل البحث على الطلاب الدراسات العليا ولا سيما طلاب الماجستير أو الطلاب الذين ليس لديهم تصور مسبق عن مشكلة قابلة للبحث والدراسة. وهناك أسباب في اعتبار المرحلة الأولى من أصعب مراحل البحث؛ منها قصور مهارات البحث لدى طالب الدراسات العليا المتعلقة بهذه المرحلة فيقع اختياره على واحد من الموضوعات المحظورة، وهي محددة في كتب المنهجية العلمية في البحث كموضوع يشتد فيه الخلاف بين مؤيد له ومعارض، وموضوع كبير يتطلب فريق عمل لإعداده، وموضوع صغير لا يستحق الدراسة، وموضوع خامل لا متعة في دراسته ونتائجه، وموضوع يتطلب توافر تقنية معينة، وموضوع غامض يصعب على باحث مبتدئ الكتابة فيه. وموضوع مستهلك تم إشباعه بحثاً. ومن الأسباب تخلي عضو هيئة التدريس عن الطالب للبحث عن موضوع يستحق الاهتمام؛ إما رغبة منه في أن يكتسبوا مهارات البحث كونهم باحثين، أو لقلة اهتمامه بهم.
لقد أكدت كتابات عدة عن برامج الدراسات العليا إلى جملة مشكلات ذات علاقة بالطلاب ومنها يتصل بمرحلة اختيار الموضوع أو المشكلة وقدمت توصيات يمكن أن تسهم في مواجهتها إذا تم الأخذ بها، ومع ذلك لا تزال هذه المشكلات تتكرر مع الطلاب وتتسبب في إضافة أعباء عليهم وعلى الأقسام العلمية التي ينتمون إليها.
إنك تشفق على بعض طلاب الدراسات العليا في هذه المرحلة؛ إذ يلاحظ علامات ظاهرة على قلقه كتحديد موضوعات عدة لعضو هيئة التدريس؛ من أجل مساعدته في الاختيار وهذه مشكلة كبيرة في الإعداد العلمي له، أو قصور فهمه بعناصر الموضوع المختار، وهذه مشكلة أخرى في مهارات البحث لديه عن كتابات ذات صلة به، ناهيك عن تدني مهارات التحرير العربي لديه.
أنه يستغرق وقتاً طويلاً في هذه المرحلة تزيد عن فصل دراسي وربما أكثر، وهذا من زمن تفرغه عن العمل من قبل مرجعه، كما أنه يصرف جزءاً كبيراً من طاقته وجهده، وفي هذا هدر له وللقسم العلمي الذي ينتمي إليه. وربما بعض الطلاب ينسحب من الاستمرار في الدراسة بسبب استمرار صعوبة هذه المرحلة.
يلجأ بعض طلاب الدراسات العليا للاستعانة بأدلة تصدرها الجامعات بصورة دورية تتضمن عناوين لرسائل جامعية تمت مناقشتها وأخرى في طور الإعداد، ويعملون بعض التعديلات على العناوين ويقدمونها للأقسام العلمية. وهذه الطريقة تتسبب في حدوث أهم مشكلة في البحوث العلمية وهي النمطية أو تكرار تناول الأفكار مبحوثة. والبعض ُيوفًق ويكتب رسالته العلمية وينال الدرجة(الماجستير أو الدكتوراه) لكن بدون نتائج جديدة، وبالتالي قد لا تستفيد منها جهات الاختصاص. وفي هذا إساءة لسمعة القسم العلمي والكلية والجامعة.
إن الزائر لكبرى المكتبات الحكومية يلحظ أن بعض بحوث أعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا تبقى حبيسة الأرفف والأدراج حتى أنك لا ترى تفاصيل أغلفتها من كثرة ما عليها من أتربة، وهذا يعود لأسباب في مقدمتها بُعد الموضوع أو المشكلة عن اهتمامات المجتمع.
أجزم بأنه توجد دراسات علمية قدمت خرائط بحثية مقترحة يمكن أن يستفيد منها أعضاء هيئة التدريس وطلاب الدراسات العليا طلاب لكنها محدودة جداً وغير معروفة لدى جمهورها المستهدف، أما إذا تبنّى جهاز رسمي متخصص بحجم وزارة التعليم العالي مشروعا بحثيا فلا شك أن تأثيره يختلف من حيث الانتشار والاستفادة.
ومن الحلول المطروحة لتذليل صعوبة هذه المرحلة اتجاه مقام وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية بتبني مشروع بحثي كبير باسم خريطة بحثية مستقبلية لمدى زمني معين بإشراف عمادة الدراسات العليا في كل جامعة. تشكل لجنة عليا برئاسة معالي وزير التعليم العالي أو نائبه وعضوية وكلاء الجامعات للدراسات العليا والبحث العلمي، ويتفرع عن هذه اللجنة لجان فرعية في كل كلية.
وُتعرف الخريطة البحثية في التعليم الجامعي بأنها» أداة تخطيطية لتشخيص الواقع البحثي في مجال معين، واستثمار الموارد المتاحة بهذا المجال؛ لتلبية احتياجات القطاعات التنموية المختلفة الحاضر منه والمستقبل بصورة تحقق تنمية شاملة ومتكاملة على أن يتطلب ذلك تكاملاً في وجهات النظر بين عدد من الخبراء والمتخصصين في ذلك المجال، والاستفادة من خبراتهم وقدراتهم على الحدس والاستبصار العلمي والتخيل الإبداعي للمجال البحثي».
ويتضح مما سبق أن أبرز أهداف الخريطة البحثية هي تحديد المجالات والجوانب التي تستحق الاهتمام في كل تخصص علمي وميداني، ورصد أبرز العناوين المهمة والأكثر احتياجاً وترتيبها وفق أولوياتها؛ لتوجيه طلاب الدراسات العليا إليها. وتوفير متطلبات البحث فيها.
ومن فوائد الأخذ بالخرائط البحثية رصد أبرز التوجهات البحثية الحاضرة والمستقبلية، توجيه فكر واهتمام طلاب الدراسات العليا نحو الموضوعات التي يحتاج القسم العلمي إلى دراستها، وترشيد جهودهم لما يعينهم على إتمام خططهم ورسائلهم وفق المدرسة الفكرية التي يتبعها القسم العلمي، والعمل مع أعضاء هيئة التدريس على تحقيق الأهداف البحثية للقسم العلمي، واختزال أوقاتهم وجهودهم بما يعين على إنجاز مرحلة اختيار الموضوع في وقت قياسي، وخدمة المجتمع من خلال تقديم حلول لمشكلات مؤسسات المجتمع الخدمية والإنتاجية.
وإذا كانت الفوائد السابقة تصب في مصلحة الطالب والقسم العلمي معاً، فإن وجود خرائط بحثية مستقبلية يعود بخير كثير للجامعة، إذ يحسب لها بأنه إنجاز مطلب من متطلبات التميز في الأداء الجامعي والمتعلق بالبحث العلمي وخصوصاً لتلك الجامعة التي توازن في اهتمامها بين وظائفها الرئيسة: التدريس والبحث العلمي وخدمة المجتمع.
وإذا كان هذا المطلب أولية لدى الجامعة حديثة النشأة، فإنه أولية الأوليات لدى الجامعة المتميزة وهي التي حققت مراكز متقدمة في أنماط التقويم الدولي للجامعات. وهذا ديدن الجامعات الرائدة في العالم.
وفق الله الجميع