تتسم التربية بأن أوجه الاستمتاع فيها عديدة ومتنوّعة، ومن تلك الأوجه التجدد، فالتربية كالماء إن بقيت على حالها أسنت وفسدت، لذا لا بد أن تتجدّد وتتطور، والعاملون في الميدان التربوي الجادون المخلصون لن يعجزوا أبداً عن أن يجدوا باباً من أبواب التجديد والتطوير طالما أنهم يمتلكون القدرة بشقيها البشري والمادي، ولديهم الرؤية والرغبة والمعرفة الواعية بحاجات الميدان التربوي ومتطلباته.
والمتابع للحراك التربوي في العقدين الأخيرين، يلحظ أنه حراك يفتقر للتركيز وتحديد الأولويات، حراك حاله كحال (حاطب الليل) الذي يجمع ما هبَّ ودبَّ بسبب عدم وضوح الرؤية لديه، وبالتالي فهو ملزم أن يتعامل مع كل ما يقع تحت يده سواء أكان مما يتوافق مع غاياته أم لا، المهم أن يجمع ما يستطيع، خشية أن يتهم بالتقصير والعجز، وهكذا هي حال العاملين في التطوير يتعاملون مع كل شيء، ولا يرى لهم في الميدان أي تغيير وتطوير فهم كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
وخروجاً من حالة حاطب الليل التي ظلت ملازمة للحراك التربوي، يجب أن تتجه بوصلة الحراك تجاه المدرسة والوقوف عندها شكلاً ومضموناً، بدءاً من أبوابها ومحيطها الداخلي والخارجي، إنها تستحق وقفة طويلة باعتبارها المؤسسة الأم والبيئة الحاضنة لكل عمليات التربية والتعليم، وهذه الوقفة تقتضي مراجعة أمور منها.
الأمر الأول: البناء المدرسي والمرافق التربوية المساعدة، وذلك من حيث، سلامة المبنى، وكفاية المرافق (الملاعب والمختبرات والمعامل والتهوية ودورات المياه.....)، إن مما يثير الدهشة والاستغراب، وبعد التطور الهائل في تقنية البناء وهندسة المباني، أنه لا وجه للمقارنة البتة بين جودة المباني المدرسية التي بنيت قبل أكثر من خمسين عاماً وتكامل مرافقها، وتلك التي يتم بناؤها اليوم، والشواهد على هذا كثيرة، منها على سبيل المثال مبنى ثانوية العارض والمباني المدرسية المجاورة لها في حي الشميسي بالرياض، هذه المباني رغم قدمها ما زالت تفي بالاحتياجات التعليمية والتربوية، ما زالت صامدة أمام الأمطار التي أضحت الشاهد الحي والاختبار الحقيقي لمدى رداءة المباني المدرسية الجديدة، فمع أول موسم أمطار على استلام المباني المدرسية الجديدة، تبدأ المعاناة من تسرّب مياه الأمطار عبر شبكة تمديدات الكهرباء، هذا فضلاً عن التسرّب عبر الأسطح والفواصل، أما الحديث عن شبكات السباكة والإضاءة فحدّث ولا حرج، الخلاصة أن المباني المدرسية تحتاج إلى مراجعة كافة عملياتها، بدءاً من التصاميم والمواصفات والشروط والضوابط والمنافسة والتسليم والاستلام.
الأمر الثاني: الإدارة التربوية، من حيث التأهيل والتشكيل والأدوار والمهمات والصلاحيات، فقد جرت العادة على أن يتم اختيار القائد التربوي وفق جملة من السمات الشخصية، وما يتيسر من الخبرة العملية، وكلاهما مطلب رئيس ولا ريب، لكن تلك السمات والخبرات وحدها لا تكفي، فالمعرفة المهنية لأدبيات الإدارة التربوية المتجددة بمفاهيمها وإجراءاتها متطلب رئيس في تحقيق النجاحات التربوية المنافسة، إن الممارسة الحالية في اختيار القادة التربويين غير كافية، وغير مهنية، حيث يلزم تعزيز الخبرة الذاتية لمن يتم اختيارهم بإلحاقهم ببرامج تعيد تأهيلهم، ودورات تدريبية على ممارسة الإدارة التربوية وفق أصولها وأدبياتها المعتبرة، ووفق منظور يعتمد على الإدارة المتعلمة، أي الإدارة التي تتعلّم من ممارساتها اليومية، ومن متابعة أدوار العاملين معها، ومن تقويم مخرجات عملها، بحيث ترسم خطة عمل تشتمل على الحلول المناسبة لتجاوز الإخفاقات والأخطاء التي تم رصدها خلال المدة الماضية، وهكذا تنمو الخبرة، وتنمو الممارسات الناجحة، وتتحقق الغايات المنشودة.
الأمر الثالث: عمليات التعلم، بدءاً من إدارة الفصل وضبطه، وطرائق التدريس وإستراتيجياته، والقياس والتقويم، والمتابعة والتواصل مع أولياء الأمور، وأوجه النشاط، وتدريب المعلمين، وغيرها من الفعاليات التربوية المستمرة التي يجب ألا تتوقف أبداً داخل أسوار المدرسة