مِفتاحُ المَعْرِفةِ والعلم تَصَوُّراً عن فقهٍ وفهمٍ: أن يكون ما أريد أن أَتَلقّاه منك، أو تَتلقَّاه مِنِّي مُحَدَّداً بعبارة واضحة لا التباس فيها.. إلا أنه غلب كثيراً عند الخاصَّة والعامة (سُوءُ التعبير) الحاجِب عن إيصال المراد بلغة واضحة مُحَدَّدة لا لَبْسَ فيها؛
ومن أجل ذلك وُلِدَتْ (الفلسفة التحليلية اللغوية) التي كان أحدُ رُوَّادها من العرب الدكتور زكي نجيب محمود عفا الله عنه، وموجزها: (أريد أن أفهم ما تقول بوضوح وبلا لبسٍ)؛ وسببُ التباس المراد وغموضه تَوَسُّع دلالات اللغة ولا سيما لغتنا العربية؛ فهي (بشهادة ذوي الاختصاص) أوسع اللغات تعبيراً ولا سيما من جهة كثرة المُترادفات، وسعة المجازين اللغوي والأدبي.. وهي بمعاناتي وخبرتي ذات فروع في المفردة الواحدة يحار الذهن في الجمع بينها ورَدِّها إلى أصل واحد؛ ولهذا فالسعةُ في التعبير، وكثرة الاختلاف بين المعاني: تقتضيان تنزيل المعنى على المُراد بوضوح مُحدَّد ببرهانين أكثرتُ من التذكير بهما، وهما برهان التصحيح من اللغة وليس من الشرط أن يكون هو الأظهر في جمهور كلام الناس، وبرهان ترجيح المُراد؛ وهذا هو معنى (اختلافُ العِباراتِ باختلافِ الاعتبارات)، وهي جملة استعرتُها من أبي البقاء الكفوي رحمه الله تعالى في تعريفه الفِكْر بكتابه الكليات، وتلك الجملة قاعدة صحيحة حتميَّة في تخاطب الناس؛ لِـيُحَدِّد كلُّ واحدٍ منهم مُراده من لغة قومه بلا لبس؛ وبهذا يحصل تَصَوُّر المَعْرفة والعلم، وهما مُفْردتان لُغويتان، وَمَفْهُومَا مَعْنَييهُما إجمالاً حاصلان عند العامة والخاصة، ولكنْ حينما أُرِيدَ تحقيق المعنيين بتحديد تأصيلي يحصل به الوضوح والتمييز: جُعِلا حقلاً علمياً مستقّلاً بعنوان: (نظرية المعرفة)؛ وذلك عندما أصبح تحليلُ الحسِّ وإدراك العقل حفيلاً مُؤَصَّلاً عند الغربيين.. إلا أنهم مَزَّقوها بالمذاهب العدوانية التي جعلت لكل فيلسوف اصطلاحاً؛ فهذا شتات يُتْعِب المحقِّق في التَّخلُّص منه ولا يُحيله.. كما أنهم حَجَّموا النظرية بالمعرفة وأهملوا مفردة العلم التي هي معرفة وزيادة.. وكلمة (نظرية) اسم منسوب إلى نظر الحس بحضور العقل؛ لتكون المعرفة الحاصلةُ بالحسِّ مباشرة، ثم يكون نظر العقل فيما تصوَّره؛ لتحصل له زيادةُ علمٍ بالمحسوس الذي تصوَّره؛ وذلك إضافة إلى الإدراك المباشر من الحس، وليعلم أحوالاً وأوصافاً عن واقع لم يكن في قبضة الحس المباشر.. والنظرية تسميةٌ مُوَفَّقة؛ لأنها تشمل اليقين والرجحان والاحتمال والوهم والخطأ نفياً أو إثباتاً في الأمور كلِّها؛ فتكون بهذا الشمول حقلاً علميّْاً مستقلاً يؤصِّل نظر البصر والبصيرة، ويُبيِّن كل جزئية من النظرية بما يحصل به التصور الكافي المُحدَّد بوضوح لا لبس فيه؛ذلك أن النظر هو سبيل الرؤية وليس هو الرؤية نفسها.. ألا ترى أن نظر العين يمتدُّ إلى جهةٍ على أملِ أن يرى شيئاً يقصد رؤيتَه - ومن ههنا جاء معنى التأمُّل -، أو يتَّجه نظره إلى شيئ في يده على أن يرى صفةً أو جزئية فيه، وقد يحصل النظر ولا تحصل الرؤية؛ ولهذا يستعين بالله ثم بنظر الآخرين لعله يرى ما رأَوْه ؟!.. وهكذا التفكر سواء بسواء، فهو نظر البصيرة، وهذه تجرِبة في وِجدانْ كل فردٍ لا تحتاج إلى الاستشهاد بقول أحدٍ، ولكنني أتطوَّع بتأنيس القارئ بما بيَّنه فحول العلماء.. قال الشريف الرَّضي [ - 406 هـ] عفا الله عنه في حقائق التأويل ص 253/دار الأضواء ببيروت: ((النظرُ تقليب الحدقة الصحيحة في جهة المرئي التماسا لرؤيته، وكل راءٍ ناظر، وليس كلُّ ناظرٍ رائياً؛ فكان حقيقته الطلب؛ لأن الناظر يطلب الرؤية، والمفكر يطلب المعرفة، والناظر بمعنى المنتظر يطلب الشيئ الذي ينتظره، ويُعلِّق خوفه أو رجاه به.. وأنشدنا شيخنا أبو الفتح عثمان بن جني عن أبي علي الفارسي قول ذي الرمة:
فياميُّ هل يُـجْزَى بكائي بمثله
وإني متى أشرفْ من الجانب الذي
مراراً وأنفاسي إليك الزوافرُ
به أنت من بين الجوانب ناظر
قال: وكان يستشهد بهذا الشعر على أن الرؤية غير النظر، ويقول: (لو كان النظر بمعنى الرؤية لم يطلب الشاعر عليه الجزاء؛ لأن المحب لا يستثيب على النظر إلى محبوبه ثواباً، ولا يستجزي عليه جزاءً، إذْ كان ذلك مرادَه ومناه وقصده ومغزاه.. ألا ترى أنهم يتمنون رؤية أحبابهم ومسارقة النظر إلى أشجانهم، ويشتاقون ذلك في أسجاعهم وأشعارهم؛ لأن فيه قضاء إربهم وبلال غللهم، وإنما يعبرون في أشعارهم بالنظر عن الرؤية؛ لأنه سببها ومقدمتها والرائدُ المطرَّقُ لها؟)).. ثم ذكر قول امرئ القيس:
فلمَّا بدا حورانُ والآلُ دونَهُ
نظرتَ فلم تنظر بعينيك منظرا
فقال ص 225 عن ذلك البيت: ((فليس بدليل لهم على أن الرؤية هي النظر؛ لأنّ النظر لو كان بمعنى الرؤية لكان في قوله: (نظرت) دليلٌ على أنه قد رأى، وكان قوله بعد ذلك: (فلم تنظر بعينيك منظراً) مُنَاقِضَهُ.. ولكنَّ قوله: (نظرت) الأول خارج على حقيقته، وهو تقليب الحدقة في جهة المرئيِّ طلباً لرؤيته، وقوله: (فلم تنظر بعينيك منظراً) يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون سمَّى الرؤية نظراً على طريق المجاز والاتساع؛ لأنّ النظر سببها وطريقها؛ فجاز أن تُسمَّى باسمه؛ ولذلك نظائر كثيرة.. والوجه الآخر أن يكون مخرج النظر على حقيقته أيضاً، وأراد أنك قلَّبتَ طرفك فتعذر عليك تقليبه في جهة المرئيِّ، لغلبة الدمع على عينيك، فلم يصح لك النظر المفضي إلى الرؤية)).
قال أبو عبدالرحمن: لا يحتاج الأمر إلى هذين الاحتمالين؛ لأن المنظر اسم مكان يُرى، وهو معروف قد رآه الآخَرون؛ فهو منظرٌ مَرْئيٌّ عندهم.. والشاعر نفى رؤيتَه المكان بنظر عينيه.. ولسعة اللغة، وكثرة فروع المادة الواحدة بمعانٍ كثيرة؛ ولكونِ كلِّ معنى له دلالة خاصة: احتاج العلماء إلى تحرير فَنِّ المصطلحات المأخوذ معناها الخاص من معنىً متعيِّن من عموم اللغة، ولا يكون المصطلح ذا قيمة إلا إذا كان هو المتَّفق عليه عند جمهور أهل الفن، ولا يضرُّ اختلاف الاصطلاح بمرادفه كتعبير النحوي البَصْرِي بالمتعدِّي، وتعبير الكوفي بالفعل الواقع.. ولا يضرُّ الاختلاف في أحكام ما هو مصطلح عليه كالطاهر عند الفقهاء، والطهور الطاهر في نفسه المطهِّر غيرَه، ثم يأتي اختلاف المصطلحين في مقدار ما يخالطه من نجاسة أو طاهر في نفسه ومدى صفة ما يكون به متغيِّراً؛ فلا يكون طهوراً؛ فهذا اختلاف في حكمِ وصفةِ واقعةٍ هل هي من الطَّهور أو لا، وليس اختلافاً في الاصطلاح على معنى (طهور).. ومن المصطلحات المُجْمَعِ عليها المُسْتَقِرَّة: الصحيحُ والحسن والضعيف عند المُحدِّثين، والقضاء والأداء والإجزاء والقبول عند الفقهاء، واسم الفاعل ونائب المفعول المطلق عند النحاة.. وأما المصطلحات عند كل فرد فذلك شتات آخر غير الشتات في سعة اللغة؛ فهو مردود إلى اللغة على قاعدة (اختلافُ العِبارات باختلافِ الاعتبارات)، وأُحقِّق المثال لذلك بمعنى الفكر نفسِه الذي طرحه الكفوي وختم به قاعدته الجميلة التي جعلتُها عُنواناً لهذه المداخلة؛ فليكن على البال أوَّلاً الجذر الثنائي للمادة، فكل كلمة من ثلاثة أحرف تتكون من ستِّ مواد بالقلْب كالفاء والكاف والراء موادهاً ستٌّ هي فكر، وفرك، وكفر، وكرف، ورفك، وركف.. وكلُّها مستعمل إلا الرفك فهو مُهْمَلٌ ليس له معنى في لغة العرب، ثم نعود إلى الفكر فهو اسم لشيئ لا نستطيع أن نلمسه أو نشير إلى مشاهدته بمثل: هذا هو الفكر.. وإنما هو اسم لقوة من قوى العقل نُحِسُّ بوجودها في أنفسنا باستحضار (وذلك بحضور مباشر، أو تذكُّر) ما هو في تَصَوُّرنا عن الأشياء التي التقطَتْها حواسُنا بإدراك العقل تصوراً وحفظاً واسترجاعاً، مع تصور ما بينهما من علاقات وفوارق؛ لنستخرج من ذلك أحكاماً نزداد بها علماً.. ويحضر مع هذه القوة العقلية كلُّ قوى العقل الأخرى من دقة الملاحظة، ودقة التمييز بعاملي الذكاء والفطنة. وهكذا يحضر بعد العناء استجاعُ ما حفظته ذاكرة العقل؛ فالفكر إذن يرادف (نظر البصيرة)، وقد يصاحبه نظر البصر فيما يُقَلِّبه بمدارك الحواس الخمس.. ليس للفكر معنى غير هذا، وكلُّ مرادف تَرُدُّه إلى هذا المعنى؛ ففي متون اللغة أن الفكر إعمال النظر؛ وإنما يصلح هذا معنى للتفكير الذي هو إعمالٌ للفكر.. وفي متون اللغة أن الفكر إعمال الخاطر، وهو ما يخطر لنظر الفكر من غير قصد، وهذا تعريف فاسد ليس من تحديد العرب، ولكنه اجتهاد فردي؛ فالخاطر ليس هو النظر، وإنما هو موضوع للنظر؛ لأن التفكير هو إعمال الفكر، وهو كذلك نظر الفكر في شيئ أو أشياء، والخاطر من ضِمنها.. وفي متون اللغة تفكَّر بمعنى تأمَّل وهذا صحيحُ المُرادَفة مجازاً لا مطابقة، فليس الفكر بمعنى الأمل، ولكن من يطيل نظر البصر أو البصيرة إنما يريد شيئاً يأمل الحصول عليه كزيادة علم عقلي لما وراء الحس، أو زيادة علم من المعروف بحسك كشيئ تنظر إليه ببصرك متعجِّباً من حسنه أو قبحه، أو من قوته أو ضعفه.. إلخ؛ لتعلم سِرَّ ذلك؛ فكان التأمُّل مرادفاً التفكُّرَ بالنتيجة؛ لأنك لا تتفكر في شيئ إلا آملاً الحصول على علم.. وأمَّا تحديق الشاردِ في شيئ ما فلا يعني تفكيره فيه، بل يُحدِّق فيه وفكره شارد إلى النظر في غيره، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله، والله المستعان.