الله يا زمان ولا أقصد زمناً بعيدًا الذي كان لتفاصيله حميمية ولمكوناته الألق، زمان لا يشبهه وقتنا هذا الذي تسارعت به عجلة الزمن، والذي غيرت ملامحه بسرعة كبيرة عدة عوامل منها: الفضاء الإلكتروني الذي جعل إيقاع العصر سريعاً، وأدخلنا بمعارك كثيرة مع التقنية لا أدري أيها القارئ الكريم إن كنت تعتقد أننا خاسرون أو فائزون فيها، وإن كنت توافقني أنها معارك أو هي حتمية التقدم!
لعل الطريقة التي يتعامل بها البعض مع وسائل التواصل الاجتماعي كالتويتر والفيس بوك و( جروبات) الواتس أب هي ما جعلت داخلي علاقة عداوة مع هذه الوسائل، ربما لأن البعض لا يعي ثقافة استخدامها سواء للاستفادة من آفاق رحبة قد تكون سبيلاً لها أو تسلية وترفيها. أو وسائل للتواصل في عالم أصبح كقرية صغيرة.
سأقتبس بعض الآراء من مقالات أصحابها حول هذا الموضوع حيث في مقالة أ. شاهر النهاري في صحيفة مكة يقول: «يتباهى البعض منا بعدد مجاميع «المحادثة» التي يزخر بها هاتفه الخليوي، حتى ولو كانت «قَيْداً أَدْمَى مِعْصَمه»، وينكر، وهو يحيل بعضها إلى وضع «الصامت» كنوع من «إِبْطَاءُ المُدلِّ المُنْعِمِ».
وهذا يوضح أن معظم المحادثات عبر مجموعات الواتس مزعجة وقد تمتد لساعات متأخرة، فلقاء المجموعة في مقهى أو مجلس دوري أسبوعي لمناقشة قضية ما قد لا يستهلك الوقت والجهد، وقد لا يكون نأيا بالشخص في عالم مقطوع عن الآخرين من حوله لتتحول هذه التقنية إلى عكس مسماها (وسائل تواصل) حتى إننا بلغنا من الإزعاج ما جعلنا نصيح في لقاءاتنا العائلية من انكفاء البعض على جوالاتهم خلال الجلسة؛ مما جعلني شخصياً أضع صندوقاً عند الباب لوضع الزائر هاتفه الجوال به كي لا ينشغل به عن الحاضرين.
علماً أن الصالونات الخاصة التي اشتهرت المملكة بها والتي سميت بأيام انعقادها سواء الأحادية أو الخميسية وغيرها حققت الجدوى من تواصل أصحابها ومرتاديها بطريقة رائعة وأسلوب حضاري.
(نحن ظاهرة كلامية ترفض النقد ولا تقبل الرأي الآخر) هذا قول أحد المشتركين عبر ( جروبات الواتس أب) يصف بها ردود الفعل حول النقاشات التي تدور، والتي قد تؤدي للتراشق بألفاظ نابية وحذف أحد أعضاء الجروب أو الانسحاب، ناهيك عمن يستعرض دون خلفية كافية أو ثقافة حوار، وعمن يجرح أو ينسى أنه يشارك العشرات في هذا الفضاء فتتفاجأ برسائل تتعدى المئات ستجد أن أغلبها تحول لمحادثات جانبية وصباح الخير ومساء الخير ووينك ما شفناك، واستخدام رموز وحروف لاتينية ووووو.
«لقد تمكنت التقنية من جعلنا نقطن في بيت كبير واحد، ونتصارع على أصغر الأشياء وأوضحها، وقد نتوافق في أكبر الأمور تعقيداً وخطورة. تقنية ساعدت على تبيان حقيقتنا، ونزع أقنعتنا، وللأسف فإنها في بعض الأمور ضيعت «مِنَ الشَّوْقِ رَسُولٌ بَيْنَنَا».
ولعلي أجد في العبارة السابقة من المقال الأول الذي أشرت إليه ختاماً لهذا الموضوع، حيث إنني بعد نشر هذا المقال سأجدني بفضله حذفت من (الجروبات) التي وجدتني مضافة إليها من غير علم، أو تلك التي ظننت فيها فضاء للنقاش المتخصص حسب مسمياتها ثم وجدتني أسبح في كوكب آخر.
ولن أقول وداعاً أيها الزمن الجميل؛ فما زال حاضراً في مجالسنا التي لم تهترئ مواضيعها، وفي الكتب التي تؤثث مكتباتنا المتواضعة، وفي صوت قادم ولو عبر الهاتف يعيد الذكريات الجميلة دون الحاجة لاستنفاذ طاقاتنا في كتابة رسائل لا تحمل دفء ولا صوت صاحبها.
***
فضائيات (بملاليم) تنطلق عبر الفضاء، وبمذيع هو المدير والمموّل والمخرج والمراسل والذي لا يظهر على القناة إلا هو، ينصب نفسه مرشداً أو وصياً ناصحاً ثم محللاً سياسياً ووصياً على الشعوب محامياً لها، حسب الحالة؛ إما ينتظر رشوة لإسكاته أو حسنة ليقود نار الفتنة، والله ملّينا.