)) في أكثرَ من جلسةِ نقاشٍ يبدو التركيزُ على الشخص متفوقًا على قراءةِ الدلالاتِ المستقاةِ من تجربته أو نتاجه؛ فنلسون مانديلا - وقد قابله صاحبُكم ورافقه ساعةً من نهار - ليس شخصَه بل مسيرتُه، ولا يُهمُّ إن بذل غيرُه أكثر منه أو أقلَّ بل ما يمكن استخلاصُه من عشقِه للحريةِ التي سُلبت منه في أجمل سنوات عمره بين الأربعين والسبعين ونضالِه من أجل أهلهِ وزهدِه في الكرسيِّ وتواضعِه الحقيقيُّ وتقديمِه نموذجًا للإنسانِ المتطلعِ إلى غدٍ مختلفٍ لا يقهرُه اليأسُ والبأس.
)) وحين نحكي عن “القصيميِّ” - غفر اللهُ له- فلا تعنينا توبتُه أو ضلالُه بإطارهما الفرديِّ فذانك شأنه مع ربه جلَّ شأنُه، واهتمامُنا متجهٌ لتآليفه في طوريه المؤثّرين حكمًا على رحلةٍ ومحاكمةً لمرحلةٍ، ولنا ما يبررُ العودةَ إليها؛ فزمننا يرثُ زمنَه، وقد نكتشفُ أن بيننا في الجيل الشابِّ “قصيميين” كُثُرًا لا نأبهُ بهم لغيابهم عن الدوائر المفتوحة، والخطأُ هنا أن المغلقَ منها لن يظلَّ كذلك.
)) وحين ندرس ظاهرةً معينةً فإن الالتفات لشخوصِها يَحرفُ قراءَتنا الموضوعيةَ لها، وربما جهلنا أو فُرض علينا تجاهلُ حركةٍ أو حِراك لورود أسماءٍ تتقاطعُ مع رغباتِنا، ولو اعتمرنا مبدأَ موتِ الرموز على طريقةِ موتِ المؤلف - لاكتشفنا نطاقاتِ تشاركٍ وتفاعلٍ وتعاملٍ تأذنُ بحوارٍ ينفي التباغضّ والتدابر.
)) أمامنا جيلٌ فرض ذائقتَه وفهمَه ووسائطَه على الجيل المتقدم، وهو ما يبدو قاعدةً مقلوبةً ترسمُ علاماتِ دهشةٍ متصلةً غيرَ قابلةٍ للتنبؤِ وتطَّرِحُ فكرةَ الرمز الفرد ليحِل محلها الجمعُ المتبدلُ الذي يثريه صغارُه قبل كباره، ويُقادُ فيه من اعتاد القيادة، وتنحسرُ معه إمضاءاتُ الساسة وإملاءاتُ الوعاظ واشتراطاتُ التربويين والمثقفين والبيروقراطيين.
)) تعلقنا بالاسم زمنًا فصاغنا زعيمٌ وعميدٌ وأبٌ وشيخٌ ومعلمٌ وشرطيٌ وحركيٌ، لكن الأجيال الجديدة لم تعد تراهم كما كنا نراهم ونتماهى مع رؤاهم، وفي أعوامٍ قادمةٍ ستُوارَى الفرديةُ ثرى التلاشي المتدرج لتتعددَ الوجوه وتختفيَ الرؤوس ويتصدرَ كما يسيطرُ المسُوسون.
)) التقنيةُ صنعت الفارقَ دون ريب؛ فلم يعد صوتٌ محجوبًا ولا صيتٌ حاجبًا كما لا حاجبَ قادرٌ على رسم أولويات المرور وحقوق المارين، وستكون شخصيةُ العام وكلِّ عام مخرجاتِ التقنيةِ المتسارعةَ المتغيِّرة، ولن يغلب رقمٌ رقمًا كما لن يطفئَ فهمٌ فهمًا.
)) لو عاد الزمنُ بالتقنيةِ للأوائل فما الظنُّ أن القممَ العلميةَ والإبداعيةَ ستجد قيمةً لشخوصها، وسيسكنُ مواقعَهم ومن خَلَفهم شيءٌ من هوامشهم وبعضٌ مما أثار غبارًا حولهم، وستجد النصوص الهجائيةُ المقعدَ الأولَ ومعها الغزلُ الحسيُّ والفحشُ اللفظيُّ والمعنويُّ والبياناتُ الثوريةُ غيرُ المنضبطة ومحبو الظهور وتابِعو القشور، وربما لا يرثُ الجيل التالي - على الصعيد الفكريِّ- أشياءَ ذاتَ بال.
)) الوقت ملحٌ لقراءة الآثار التقنية الثقافية المتحققة والمتوقّعة كي لا تنشأَ أجيالٌ بلا أساتذةٍ شخوصًا ودروسًا؛ صَبوحُهم هواجسُ مقلقةٌ وغَبوقُهم آفاقٌ مغلقة.
)) التنبؤُ وعي.