لا يوجد في المجتمعات أكثر خطرا من خطر زوال الطبقة الوسطى أو اضمحلالها كما يحدث عندنا، ولا يسعد أي مجتمع ويستقر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلا بوجود هذه الطبقة المكونة عادة من كبار موظفي الإدارة الوسطى في الدولة والقطاع الخاص، وصغار التجار، وفئات المهنيين والمثقفين والفنيين والأدباء والكتاب وغيرهم، والتي تمثل صمام أمان للمجتمع، حيث يجب ألا تقل عن نسبة معينة من أي مجتمع تبعا لظروفه وإمكاناته، ففي المجتمعات المشابهة للمجتمع السعودي من حيث النظام الاجتماعي والاقتصادي لا تقل عادة عن 60 بالمائة، وهو الرقم الذي لم يعد موجودا في المجتمع.
لقد تغير المجتمع بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية، ازداد الأثرياء ثراءً، وازداد الفقراء فقراً، وما تبقى من الطبقة الوسطى حتى الآن هي فئة قليلة تتشبث بآخر رمق لها كي لا تسقط في بئر الفقر المدقع. ولكي نفسر جزءا من المسألة أو نفهمها، نلاحظ الازدياد المستمر للتضخم على مستوى السلع كافة، وخاصة السلع الغذائية، وكذلك الخدمات، في مقابل ارتفاع معدل البطالة، وجمود المرتبات ودخول المواطنين ممن يعملون، خاصة موظفي الدولة، الذين كان معظمهم يشكلون هذه الطبقة الوسطى القديمة، فمن بقي منهم في الوظيفة حتى الآن، صار يقاوم انهيار أسرته الصغيرة ماديا، ومن تقاعد عن العمل فظروفه المالية، ومع معدلات التضخم المتصاعدة، أصبحت سيئة للغاية، وبدأنا نسمع عن موظفين يستحقون الزكاة والصدقة!
ولعل أسباب اضمحلال هذه الطبقة تعثر المساهمات العقارية لسنوات طويلة تصل إلى عقود من السنوات، وكذلك البطالة خاصة للمتعلمين والمؤهلين لدخول سوق العمل، والتورم في القروض البنكية، أما الضربة القاضية لهذه الطبقة، والتي ذهبت بمعظم مدخراتها ومستقبلها، كانت سقوط سوق الأسهم عام 2006 والذي جعل معظم أفراد هذه الطبقة يتحولون إلى الطبقة الدنيا على المستوى الاقتصادي. خاصة أنهم كانوا يكافحون بحثاً عن الثراء، في وقت فتحت البنوك التجارية خزائنها لهم، لشراء المزيد من أسهم الشركات والبنوك، فذهبت بهم تلك القروض الثقيلة بسرعة الصاروخ إلى الحضيض!
وتشير الدراسات إلى أن هذه الطبقة تشكل 11 بالمائة من إجمالي سكان العالم، وتكبر حتى تصل إلى 90 بالمائة في الدول الصناعية المستقرة مثل السويد والدانمارك واليابان وفنلندا، بينما كانت في السعودية على مدى سنوات طويلة تمثل 60 بالمائة، قبل أن تتناقص تدريجيا إلى أن بلغت 30 بالمائة، وربما هي في طريقها للاضمحلال أكثر. فكلنا نتذكر قديما، وعلى سبيل المثال، أن معظم العائلات السعودية عائلها موظف حكومي في المرتبة الثامنة أو العاشرة، أو مدرس في المستوى الخامس، ومعظمها تمتلك منزلا تم بناؤه من صندوق التنمية العقارية، ولديها سيارة جمس مثلاً، ويدرس أولادها في المدارس الحكومية، كانت الظروف متشابهة جداً بين معظم العائلات في المجتمع، لكن السنوات العشر جعلت هذا المجتمع ينقلب رأسا على عقب، ويفقد ميزته المهمة في سيطرة الطبقة الوسطى في المجتمع، لتنفلت نسبة قليلة جداً منها إلى الطبقة العليا الأرستقراطية، بينما معظمها انخفض مستواها إلى الطبقة الفقيرة؛ لأن دخلها كان ثابتاً، في مقابل تصاعد معدل التضخم، بزيادة الأسعار مقابل انخفاض القيمة الشرائية للريال.
أخيراً، لابد أن ندرك أن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في أي مجتمع يرتبط بصمام أمانه، وهو ازدياد نسبة الطبقة الوسطى، فكلما زادت في أي مجتمع زاد استقراره، والعكس صحيح.