انتقلت الأزمة إذن، بشكل بطيء لكن بشيء أكيد، من الولايات المتحدة الأمريكية لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى. فكل البنوك الكبرى التي راهنت على محافظ الديون ذات المخاطر، سجلت خسارات ومشكلات في السيولة وعدم القدرة على السداد..
... وبدأت تختفي الثقة تدريجياً كما ارتفعت البطالة وأضر الركود بالميزانية العامة للدول مع تراجع في النفقات، كما أدى الركود إلى نقص في الإيرادات الضريبية أيضاً. فحسب الاقتصادي كينيت روجوف Kenneth Rogoff، تتمثل الأزمة المالية والبنكية في المتوسط بارتفاع في الدين بنسبة 85 في المائة. إننا في أوروبا، واليونان، وهو البلد الأكثر تأثراً بالأزمة، على حافة أن يعلن بلد ما أنه غير قادر على تسديد الديون.
وتجدر الإشارة إلى أن الأزمة الاقتصادية في اليونان هي الأسوأ حيث تضاعفت مرتين تقريباً خلال سنتين، مع تأثير كبير على الدين، إلا أن الصعوبات في اليونان لا تعود إلى أزمة الرهون العقارية. فقد عمق البلد من عجزه خلال سنوات. فكل شيء كان على ما يرام مادام النمو مرتفعاً ويسمح بتمويله. لكن ومع الأزمة الاقتصادية، كل شيء تغير. ولليونان نقط ضعف أخرى من بينها نسبة تهرب ضريبية كبيرة واقتصاد تحت أرضي مهم. فالبعض، وعلى غرار صناديق التمويل hedge funds أو البنوك الأمريكية الكبرى، قرر الاستفادة من الوضعية من خلال المضاربة على افتراض وجود خلل في الدين اليوناني.
ولهذه الغاية، قام العديد بشراء مقايضة الائتمان الافتراضي CDS حول اليونان، حيث أدى ارتفاع الطلب على هذه الأصول إلى ارتفاع أثمانها، وهذا الارتفاع في الأثمان تم تأويله على أنه مؤشر موضوعي لخطر عدم السداد من طرف اليونان. نتيجة لذلك، ولإقراض اليونان، بدأت الأسواق تفرض نسب فائدة مرتفعة أكثر فأكثر وصلت مستويات قياسية، بلغت 17 في المائة خلال 10 سنوات و22 في المائة على مدة سنتين. وقد كان لأزمة الرهن العقاري تأثير كبير على تسريع أزمة الدين اليوناني. ففي الواقع، كانت الدول الأوروبية مضطرة للزيادة في مخططات الإنقاذ وتدابير الإنعاش حتى لا ينهار اقتصاد مثقل بالرهن العقاري. كانت هذه الدول مجبرة أن تقرض اليونان لتتحمل بشكل مباشر ديون القطاع البنكي. وهكذا، تحولت الديون الخاصة إلى ديون عمومية، في الوقت الذي لم يكن فيه النمو على ما يرام. وكانت النتيجة بالتالي، أن ارتفع العجز أولاً في اليونان حيث سجل فقدان 50 في المائة من السندات اليونانية، تلتها البرتغال وإيرلندا وإسبانيا وإيطاليا. كما انخفض تصنيف هذه الدول من طرف وكالات التصنيف مما دفع هذه الأخيرة إلى إنجاز مخططات مهمة لتقويم تمويلاتها العمومية من جديد، وبالتالي انتشر التقشف في كل أوروبا، بما في ذلك الدول الأكثر أماناً مثل ألمانيا وفرنسا التي فقدت تصنيفها المالي A.
إن أزمة القروض الرهنية وأزمة الديون السيادية فصلان للقصة نفسها. إنها المرحلة الاستثنائية للدين العالمي التي بدأت سنة 1980، وازدادت سوءاً سنة 1990 والتي أصبحت خارج السيطرة في سنوات 2000. إنها قصة الثلاثين سنة التي لم تنته بعد، والتي يعمل كل بلد على ملاءمتها مع خصوصياته وعاداته المحلية.
إن الأزمة التي تم تقديمها أعلاه، يمكن وصفها بأنها «الأشد»، «الأطول»، و«الأضخم» في تاريخ البشرية. إنها شديدة لأن الخسائر الوحيدة التي عانى منها القطاع المالي على إثر أزمة الرهون العقارية في سنة واحدة، بلغت في الولايات المتحدة الأمريكية 1400 مليار دولار، منها 800 مليار دولار في القطاع البنكي، بحسب صندوق النقد الدولي في تقريره حول الاستقرار في العالم (2008). وتعد هذه الخسائر الأهم في تاريخ الاقتصاد. فعلى سبيل المقارنة، أدت الأزمة الآسيوية سنة 1997 إلى خسائر بلغت 400 مليار دولار بالنسبة للقطاع البنكي، ويشار هنا إلى أنه لم يتم احتساب الخسائر الناجمة عن انخفاض حجم التجارة العالمية والإنتاج الصناعي وفقدان مناصب الشغل دون نسيان التكلفة الاجتماعية للأزمة. فمن دون شك، لم ولن يتم تقدير الرقم الحقيقي للفاتورة.
وكان ينبغي أن تكون الأزمة طويلة أيضاً شيئاً ما، لأنه لو رجعنا إلى أعمال راينهارت وروغوف، التي أحصت 122 حلقة من الركود من أنواع مختلفة (الأزمات المالية، النفطية، الطلب، الضريبية ومجموع فترات الركود إلخ...)، فإن الركود المرتبط بالأزمات المالية والبنكية هو الأطول والأكثر كلفة من غيره من أشكال الأزمات الأخرى. ويلاحظ راينهارت وروغوف أنه عندما تكون الأزمة متزامنة (أي عندما يدخل 10 أو 21 اقتصاداً متقدماً في أزمة في الوقت نفسه)، فالأزمة تطول بفعل التلازم وتداخل الاقتصادات، إذ تتضرر العديد من القطاعات. وقد كانت هذه الأزمات المتزامنة شديدة جداً إلى درجة جعلت الولايات المتحدة جزءاً من البلدان المتضررة. هكذا، وباستعمال مؤشر الضغط المالي AE-FSI، ومؤشر الضغط المالي القائم على السوق (Market based financial Stress Index)، لال (Lall)، وإليكداج (Elekdag) سنة 2008، الذي يقارن بين انهيار البورصة لسنة 1987 والأزمة البنكية الإسكندينافية وأزمة النظام النقدي الأوروبي (SME) لسنوات 90، وأخيراً انهيار إدارة رأس المال الطويل المدى (LTCM) سنة 1998، يتبين لنا أن أزمة 2008 جرت وراءها أكثر من مائة بلد في مرحلة من الضغط المالي العالي، ولله عاقبة الأمور.
وأخيراً، فأضخم أزمة في التاريخ هي هذه الأزمة لأن آليات انتقالها لا تمر عبر القنوات التجارية فقط وإنما أيضاً عبر القنوات المالية. ويوضح ريهارت وآل اللذان يدرسان أهمية دورات النمو بين الدول المتقدمة والدول الصاعدة، مثلاً أن الروابط بين الاقتصادات تقوم أقل فأقل على التدفقات التجارية التقليدية وعلى الصدمات على مستوى التبادل. ففي الواقع، فالدول الصاعدة التي لها اقتصاد خارجي أكثر تنوعاً، لديها قدرة أفضل لمواجهة الصدمات غير المتماثلة من هذا النوع. ويبينان أيضاً أن الروابط بين الولايات المتحدة والصين هي روابط مالية، وأن قناة نقل الأزمات من الشمال إلى الجنوب، وبالتالي، فهي محددة في الصدمات على مستوى التبادل، وأن نسب الفائدة، من خلال قروض القطاع البنكي، هي عوامل دقيقة لنقل الأزمات. ولهذا، فإن البنوك الإيرلندية والفرنسية والإيطالية والألمانية وبنوكاً أخرى، وجدت نفسها مع أصول أمريكية في ميزانياتها التي سجلت خسارات مهمة. وعلى الرغم من قرار السلطات العمومية لمختلف الدول المتضررة من الأزمة، لإنعاش القطاعين البنكي والمالي نتيجة الخسارات الضخمة التي تم تسجيلها، فإن البورصات العالمية عرفت انخفاضات مهمة في نهاية 2008، وظلت موسومة بقلق كبير وتوجه نحو الانخفاض.
ويمكن أن نضيف هنا، إلى أن جميع البورصات عرفت انخفاضاً مثيراً تراوح بين -40 في المائة و56 في المائة، وقد يقول بعض الملاحظين أن الأسواق المالية تعلمت اليوم كيف تتعايش مع الأزمة، ففي سنة 2008، كانت المشكلات مطروحة لكن لم نكن نرى حلاً، أما اليوم، فقد اكتسب المستثمرون ثقافة الأزمة، أي أصبحوا على دراية بأن المسيرين السياسيين سيجدون دائماً الحل في اللحظة الأخيرة قبل افتتاح الأسواق»، كما يلخص ذلك فرانكلين بشار، مدير بورصة باركليس، بل إن الأمريكيين اخترعوا مصطلحاً لنعت هذا الركود الذي أصاب الأسواق وهو مصطلح «الضعف المرتبط بالأزمات» (Crisis fatigue)، فلا بد من اليوم فصاعداً، من تراكم الأخبار السيئة لتنخفض الأسواق.