تعلمون أحوالَ كُتُبِ هشام جعبيط، وهو (مع فكرٍ تَبنَّته فرنسا فيما هو جنوب البحر المتوسط) في سياق زملائه الجنوبيين ما بين مُسَيَّس بالتضليل أو التلميع أو الدعم المالي.. وقِوامُ هذه المدرسة من طول معاناتي لها مَبْنيٌّ على: انغلاقُ العقل عن ضرورات فكره بتغييب الحقائق عَمْداً، والتعاملُ مع البراهين بتقزيم وكلام إنشائي عاطفي عائم مُجْمَل.
وعلى انفتاح العقول على الشُّبه في كل مقولة أساء كاتبها الفهم، وعلى انفتاح العقل بكل حِيل التخييل والمغالطة والادِّعاء والتعامي عن طرق التوثيق التاريخي والدلالي.. ومع تغييب الحقائق، وتضخيم الشُّبه بعنصر الخيال وملكة المغالطة: يبقى مُتوَسِّطُ العلم في حيرة، وربما أوغل في اعتقاد كل ما ضخَّمه التخييل والخطابات الشعرية المَغْلطائية.
قال أبوعبدالرحمن: رأيت لجعبيط في جريدة الحياة في العدد 13609 الصادر في 13-3-1421هـ ص20 مقالاً استفزازياً بلا نور ولا برهان يدافع فيه عن كتابه السيئ (الوحي والقرآن والنُّبوَّة)، ويرد ردَّاً غير مُهذَّب على رضوان السيد، وهذه السبتية لا تتسع لتحقيق الجزئيات التي أجملها؛ وإنما يهمني إبراز ملامح المنهج الرديئة غير العلمية، وقد فَخُر بغير مفخر؛ فقال: “وقد حظيتُ بكون ناشري كتبي بالفرنسية أو بالعربية يُحسنون تقويم الكتب التي أُقَدِّمها للنشر عندهم؛ وكان هذا شأن دُوْمنَاك في دار لوسوي، وشأن بيير نورا في دار غالليمار، وهو شأن بشير الداعوق في دار الطليعة”.
قال أبوعبدالرحمن: قد يُسَلَّم له شيئ من ذلك في مسائل دنيوية وأمتنا حديثة التثقف -ودعك من العلم بها-، وأما إذا كان الكتاب عن ديننا بلغتنا فعلماء أمتنا هم المؤتمنون على بيانه، وهم الأدرى بدلالته من لغتهم، وهم الأعرف بالتوثيق التاريخي لنقل نصوصه بمنهج ليس عند غيرنا من الأمم، فهل رأى في مأثور السابقين: “حدثنا فلان: حدثنا فلان.. إلخ “ بعد مَـخْض -بالخاء المعجمة- ومَـحْض (بالحاء المُهملة) أحوالِ الرواة خلال قرنين من الزمن؟.. وهل رأى أنه غاب من القرآن حرف واحد عن جميع الأمة؟.. وليست هذه الميزة في كتب الذين اُسْتحْفِظوا ثم ضيَّعوا وبدلوا وحرفوا وأسقطوا وأضافوا.. وليس من حق جعبيط بمنطق الغَيرة أن يَأْتَمِـنَ عَدُوَّنا في بيان ديننا الذي لا يملك وسائل بيانه إلا الذين آمنوا به، وتربَّوا على لغته، واحتضنوا تاريخ أمته.. ثم قارَنَ هذا الفخر الأعجمي بهجاء أمتنا افتراء؛ فقال: “وقد اعتبر الداعوق أنَّ كتاب الوحي والقرآن والنبوة كتاب عظيم، كما اعتبر (نورا) من قَبلـــه كتاب الفتنة تجديداً جذرياً في الدراسات التاريخية الإسلامية.. هم أناس يحسنون جيداً تقويمَ الكتب؛ لما لهم من خبرة في النشر والمقارنة بين المخطوطات التي تأتيهم، وعادة ما أَكْتَفي برأي الناشر؛ فأثلج صدري ما قال لي الداعوق في خصوص الوحي والنبوة.. إلا أنه كان يعتبر أن مثل هذا الكتاب أرقى من المستوى العربي، وأنه لن يُفهـم كما يجب؛ فالعرب ليست لهم معرفة حقيقية بالعلوم الإنسانية، ولا اتساعُ الأُفقِ في مجال الثقافة، وليسوا مُعتادين على الخطاب الجزل الدقيق، وهم لا يُحسنون النقد الموضوعي المتَّزن، ومغرمون بالسجال والصراع وحرب الأفكار من دون معرفة مُسْبقة بالأمور.. وفعلاً لقي هذا الكتاب صدى في تونس، إلا أن الانتقادات كانت تُوجَّه في منحىً إيديولوجي؛ فهو إما كتاب إيماني لا يستسيغه العلمانيون، وإما كتاب مخالِف للتقليد الديني فلا يستسيغه المتدينون.. وهو على كُلٍّ كتاب يصعب فهمه، ولا بد من قراءته عديدَ المرات؛ لكي يحصل بصيص من الفهم.. أما ما أتى به المؤلف من منهجية مجدِّدة، وحل لمشكلات أساسية، وانفتاح في الأفق المعرفي فهذا غير وارد”.. لعله يريد غيرَ واردٍ عليه الغموض.
قال أبوعبدالرحمن: ما هذا كلُّه يا جعبيط؟!.. إن هذا العرض الدَّعويَّ يُرْغمني على التعامل مع المنهج فقط؛ لأنني لست أمام مسائل جزئية تحليلية، وهذا المنهج حَرْبٌ على أمانة الصدق مع النفس والعلم والفكر للأسباب التالية:
السبب الأول: أن في هذا العرض الدعوي المجملِ إسقاطاً مُتعمَّداً؛ وهذا هو الجانب السلبي؛ فهذا النفي المطلق في دنيا أُمَّة صنَّفها مؤرخو العالم بأنها من الأمم ذات العلوم والتمدين: ألْغَى الحضورَ العلمي لعشرات الألوف من علماء أُمَّتنا في العلوم المتنوِّعة، وألْغى مئات الألوف من التراث الذي حفلت به فهارس المطبوعات والمخطوطات؛ فهل استوعَب الجعبيط هذا العطاء بتخصُّصٍ علمي مستوعبٍ كلَّ حقل، وبفكرٍ لا يَضِلُّ ولا ينسى حتى يكون مؤهَّلاً لهذه الدعوى العريضة الجائرة؟.. فهذا أول الإسقاط، والإسقاط الثاني أنه يعلم أن أمتنا قبل الإسلام ليس لها كتاب في أي حقل علمي مأثور؛ وإنما امتازوا بقوة الحفظ في الصدور، وانحصرت الكتابة في أفراد، وانحصرت كتابتهم في أمور جزئية موجزة كالمصالحات والمعاهدات، وبرسمٍ بدائي غيرِ مكتمل الدلالة.. وخلال ثلاثين عاماً بعد الإسلام دوَّنوا مأثورهم برسمٍ بدائي أيضاً، ولكنْ جعلوا للدلالة قواعد؛ فلما اختلَّت سليقة العرب في النطق، ولما بَعُدَ عهدُهم بتلقِّي المأثور، ولما اضطرهم اختلال السليقة إلى التأصيل اللغوي والفكري: جَدُّوا في ذلك، ولم يمض قرنان أو أقل حتى أَصَّلوا علومهم ثبوتاً ودلالة، وفكراً يحصل به الاستنباط ومعرفة الكُلِّيات والمقاصد في كل حقل علمي.. ولم يؤثر في تواريخ الأمم منهجٌ كمنهجهم في التأصيل للرواية والدراية.. وخلال القرنين المذكورين بدأوا في امتصاص العلوم الإنسانية بانتقاء، وما تجاوزوا القرن الثالث حتى استولوا على الأمَدِ في فهم التراث الإنساني وترجمته انتقاءً.. وكانت مسيرتهم في ذلك مسيرة التقشُّف في مظاهر المطعم والمأكل والملبس، مع التفرُّغ، والبحث الجاد لتحصيل العلوم؛ فكانت الأقاليم العربية والإسلامية ظَعائنَ مسافرة لهذا الغرض، واختصروا للإنسانية بعدهم معاناةَ أكثرَ من تجربة فاشلةٍ، وأمدُّوهم بتجارب ناجحة.. وهو يعلم عصر التخلُّفِ البشري في القرون الوسطى الذي بدأ نهضته حيث وقف العرب.. وهو يعلم قصة الرُّشدية اللاتينية، وهي النواة الأولى للاستمداد من الحضارة العربية الإسلامية.. فهل هذا الإسقاط خُلُقٌ كريم مُنزَّه من الأهواء؟!.
والسبب الثاني: الدَّعْوَى العريضةُ بلا برهان، وهذا هو الجانب الإيجابي في الهدمِ، والتشويشِ على المثقفين (ثقافةً عامة) بأحكام كبيرة خطيرة بلا بيِّنات؛ فهذا: إما قولٌ بتغييب العلم، وهو الأحرى.. وإما قول بلا علم؛ لأن هذه الدعاوى الكبيرة الكثيرة عن كل حقل معرفي في تاريخ أمة واسعة الانتشار في قرون كثيرة: إن كان عن تخصُّص واستيعاب (وما أبعد ذلك عن قدرة الفرد الواحد) فلابد من برهان على كل جزئية؛ فمثلاً كلمة: “العرب غير مُعْتادين على الخطاب الجزل الدقيق” من ضمن جزئياتكثيرة: هي عبارة تحتاج إلى الإقناع ببرهان من الأمثلة بعد استيعابه الخطاب العربي منذ عهد بناة تاريخنا في عهد رسول الله كالخِطاب الصِّديقي في أزمات كادت تعصف بالأمة، وكالخطاب العُمَري في سَنِّ الأنظمة الإدارية وفي مواجهة الوقائع المستجدَّة أو الوقائع غير المستجدة ولكن لم تمسَّ الحاجةُ إلى الفتوى فيها بَعْدُ كمسألة عول الفرائض الشائكة التي حقَّقت المُراد الشرعي بأذكى وأعقل خطاب حقَّق الاسمَ المفروض من النصيب إذْ تعذَّر تحقيقُ كلِّ المسمى بناءً على الوحي الكريم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)؛ فكان هذا الخطاب العُمري من البُنى التي قام عليها تأصيل المسلمين علومهم.. ثم ينتقل من العهد الصِّدِّيقي والعمري إلى الخطاب العربي منذ عهد علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم في السِّجال بينهما وبين الفرق الضالة والفئة الباغية.. ثم ينتقل من خطاب الأجيال جيلاً بعد جيل حول أمور الدين والدنيا كخطاب الإمام الشافعي في التأصيل لدين ربه، وخطاب الخليل بن أحمد الأزدي في التأسيس المُبتَكَر الواقعي لأصول معارف عربية موروثة، وكخطاب ابن فارس والأزهري في التأصيل للغة، وكخطاب الباقلاني والجويني وقبلهما ابن قتيبة ومتكلِّمو أهل السنة والجماعة في رسم المنهج للتعامل مع الواقع المغيَّب الذي يُقْلق القلبَ بضرورة العقل تجاهلُ الإيمانِ به مع اختلاف اجتهادهم في ذلك؛ ليعلم إن أصابوا أو أخطأ منهم مَن أخطأ.. هل كان لهم خطاب، وإن كان لهم خطاب فهل هو عامِّي الفكر، رُخْوُ اللغة، أو أنه فوق ذلك؟.. ثم لينتقل إلى مثل خطاب الفارابي وابن رشد والغزَّالي حول الامتصاص الانتقائي للفلسفة والمنطق والعلوم الدقيقة الجوَّانية عن خفايا النفس البشرية.. وقل مثل ذلك عن تحليل مصادر العلم والمعرفة، وأدوات الإدراك: فهل أحد من الأمم فَـهِم هذه الأمور على مُراد المؤلفن لها من الأمم قبلهم مثل فهمهم؛ ولهذا كان الفارابي يسمَّى المعلِّم الأول، وهل كانوا تابعين أو مُحاكمين مبدعين، وهل تخطِّيهم الأدب الوثني وأساطير الآلهة وصنعات الشعوذة وتعاطي السحر عن قصور أو عن عقل حصيف وقلب منيب؟.. ثم لينتقل إلى الرازي الأول والرازي الثاني وابن النفيس في رسم بعضهم أصول الموسيقى لما أدرك الأمةَ حياةُ الترف، ومعاناة بعضهم دقائقَ الطب تحليلاً وتشريحاً وإحصاءَ تجارِبَ وإبداعاً كاكتشاف ابن النفيس الدورة الدموية؟؟؟.. وإذا كان الآخَر بشهادته هو المِعيارَ عند جعبيط في الإيمان بالحقائق: فلْيسأل الآخَر عن ميزان ذلك الخطاب العربي في تكوين نهضة الآخَر نفسه بعد ظلامية ما قبل العصور الوسطى، ولا أظنه يحتاج إلى سؤال، فشهادة الآخَر موجودة مسجلة عند مئات لا عشرات، ويكفيه مثلُ غوستاف لوبون وول ديورانت صاحب الموسوعة الهائلة العجيبة (قصة الحضارة) البريئة من هذه الجريمةالجعبيطية في تسطيح الأمور الكبيرة بالتهميش الدَّعوي المُجَرَّد من الخبرة؛ ومن الطبيعي أن يكون عاجزاً عن البرهان.. ومن تناولتُهم من بُناة تاريخنا وحضارتنا أمثلةٌ شارحة لا غير، وأما الاستيعاب فليس بقدرتي ولا قدرة الجعبيط ولا أي فرد سوى أن يجتهد كل واحد في عرض آلاف الأسماء من كتب التراجم وفهارس الكتب، وأن يقرأ الخطاب العلمي عند عدد منهم يميل إليهم تخصُّصه وقناعته بأصولهم كميلي إلى خطابات ابن فارس والشافعي وابن جرير وابن حزم والخطَّابي وابن القطان وعبدالقاهر.. إلخ.. إلخ رحمهم الله تعالى، ثم تُكمِّل خبرةُ كل فرد خِبْرات الباقين؛ فيكون الحكم في الخطاب العربي عن تخصُّص، واستقراء حاصر، وبميزان العدل إنصافاً وانتصافاً.. ومفكرو الآخر يشهدون بميزة العرب بين الأمم في البلاغة وسعة التعبير مع أن واقع مأثورنا يُغني عن شهادة الآخر، فكيف استباح الجعبيط هذا الإسقاط بوصف العرب بأنهم غير معتادين على الخطاب الجزل الدقيق؟.. إن مَن فَقَد أمانة الأخلاق، وأمانة العلم، وأمانة الفكر، وتقوى القلب: يسهل عليه الإزجاءُ بكل افتراء، والانعتاقُ من البرهان -ومَن لا برهان له فهو كاذب-، والقولُ بغير علمٍ أو بتغييب العلم عمداً.. فالقول بلا علم تَمعْلم وتمظهر من أجل الشُّهرة والشعبية لدى الحُواة، والقولُ مع تغييب العلم سبيل المخرِّبين بالانتماء إلى أيديولوجية باطلة: إما عن تضليل أو انبهار،وإما عن عَمالة وارتزاقٍ خبيث.
والسبب الثالث: خَلْطُ الأوراق بقَصْرِه القيمةَ المعيارية (في ترويجه لكتابه العِنادي الهزيل) على السُّخط والرضا بين المؤمن والملحد، وهو يعلم أن الإيمان والإلحاد موضوعان للقيمة المعيارية، ولا يكون أحدهما حقَّاً وخيراً وجمالاً إلا إذا استقلَّ بحكم المعايير.. والخلط الثاني أنه يعلم بداهة كما يرى الشمس الساطعة أن الإلحاد (دعوى عدم علم)، وأن الإيمان (علمٌ بالبراهين)، وأن المؤمن مُتَطوِّعٌ بتأسيسه سِجال الإيمان على البراهين وَفْق العقل الإنساني المشترك بعد الاجتهاد في بناء نظرية المعرفة والعلم البشرية.. ويعلم أن دعوى عدم العلم عنادٌ لا يبرأ منه مُدَّعيه إلا بإحصائه براهينَ المؤمنين وتصدِّيه لها.. وكيف يقوى على ذلك ووسائل المؤمن في إيمانه بالواقع المُغيَّب هي نفسها وسائل الإدراك وقوانينه التي قام عليها العلم المادي الحديث اكتشافاً واختراعاً، وأن هذا العلم مُكْتَشِف لا خالق، وأن هذا الاختراع صناعة مخلوقٍ بنفسه وجسده ومواهبه؛ وذلك المخلوق عاش بين تأرجح في الصعود والهبوط خلال ما بعد تربية المهد إلى ما قُبيل بداية الضعف بمرض أو شيخوخة يكون فيهما النسيان والتخليط وتعطُّلُ القوى وعَجْزُ الجوارح عن المهارة التي هي ممارسة علمٍ لم يخترعه، وإلى لقاء آخر مع موضوع آخر عن المنهج الجعبيطي، والله المستعان.