لله درنا إن كُنَّا نحن تلك الأرضيةَ، وضمير الجماعة ههنا عامٌّ ومفرد في آن واحد وأحوال مُخْتَلِفة؛ فهو عام لكل من هويته الانتماء إلى تاريخنا وتركته المادية والمعنوية فكراً وثقافة وهداية شرعية محفوظة معصومة.. وهو عام لأن إرثه التاريخي من المعمورة كُلِّي غير جزئي من شمال
البحر الأبيض المتوسط إلى ما شاء الله من تعرُّجات، ومن المحيط غرباً إلى ما وراء مبلغ السَّدين.. وما سوى ذلك على قِلَّته فهو على خصوصيته في نفسه، وعلى سلام مع أُمَّتنا.. وهذا الضمير الجمعي مفرد بالنظر إلى حالة أخرى هي التخصصات والميول التي تجعلنا فئات تخصُّص ذات هُوِية واحدة كما كنا في تاريخنا قبل انكساره، وكان الآخر من مِلّيٍّ ونِحْلي وطائفي وشعوبي يعيش بيننا في حُضْن الوفاء بحقوق المواطنة، وفي مِـجْهر العدالة في كفِّ الأذى عن جمهور الأمة، وأداء حق المواطنة؛ فلله درنا فقهاء، ولله درنا لغويين.. ولله درنا طلائع فكرية، أو طلائع أدبية، أو طلائع علمية في مادة الكون: نفتح حواسنا، ونصغي بعقولنا، وتتوثَّب قلوبنا مع كل ميزة جديدة نرتاح على أريكتها بكل طمأنينة.. فمتى يكون ((لله درنا))؟!.. إذا كنا صُنَّاع التجربة بأدواتنا الوهبية والكسبية؛ فنكون عناصرَ فاعلة في الوجود، ولم نكن شيئاً من الأشياء الجامدة؛ فنكون أرضية لتجربة الآخر الذي يختصر من تجرِبته مدى استجابتنا لكلِّ مفاجأة خطيرة تجعلنا استجابةً تافهة؛ فنكون فئات تَعَدُّدٍ وانشطارٍ في الهُوِيَّة.. أي تعدُّد هُويَّات مُتناحرة.. ولو كنا صُنَّاع التجربة لكنا فئات تخصُّص ذات هُوِيَّة واحدة ليس فينا طلائعي ولا مُتَخَثِّر بمعنى الثُنائيَّة، بل كلنا طلائعيون، وكلنا غير مُتَخثِّرين؛ فالفقيه أمين مع دين ربه وهُوِية أُمَّته القائمة على تلك الأمانة، وهو مُصْغٍ لكل جديد يُوَصِّله إلى وسائل فهمٍ من منجزات المُسْتَجدات تسمو باستنباطه، وتُسرِع بوسيلة أدائه في تخصُّصه الفقهي، فلا يُفَرِّط في ذرة من الحق والبراهين العلمية التي قَبِلَ بها أن تكون حياته للتَفَقُّه في دين ربه، ولا يُفَرِّط في ذرة من كيانه وهُوِيته القائمة على ذلك الحق البرهاني.. ولا ينقاد ذليلاً لقبول أدنى ذرة من الجديد تكون وَشَباً في صفاء دينه البرهاني، وكيانه الجهوري، وهُوِيَّته الطاهرة المشرَّفة بالبناء للمفعول، والمُشرِّفة بالبناء للفاعل؛ فهذا هو معنى المعادلة الفكرية الحصيفة (خُذ بالميزة، وانْفِ المُجْمل وإن كان لغواً من الجهة السلبية غير ضارٍّ من الجهة الإيجابية)، وقل مثل ذلك عن ذوي التخصص في الآداب والجماليات، وذوي التخصص في اللغة وارتباطها باللغات، وذوي التخصص في التاريخ وارتباطه بالغيبيات الحقيقية والخرافية؛ فكل هؤلاء عناصر فاعلة نشأت على تربية من دين ربها، وعلى تحمُّلالميثاق بأن لا ينكسر كيانها، وتتمزق هُوِيَّتها باستجابة تافهة تجعله موضوعاً للتجربة لا صانعاً لها، وهم بهذا رُوَّادٌ، والرائد لا يكذب أهله؛ فإن لم يكن عندهم حصافة الفقيه التي أسلفتها فلا يقال (كذبوا أهلهم عن غير عمدٍ)، بل يقال: (مَزَّقوا هويتهم وهي برهانية علمية بتعدُّدية متناحرة، وباعوا كيانهم وهو ضرورة حياة وإرث كريم).. إن العلم المادي الحديث اكتشافاً وصُنْعاً - ولم نأخذ منه بَعْدُ بنصيب ذي خطرٍ يحمي كياننا وهويتنا، ويدعم مواهبنا - يقوم على شروط صادقة أمينة تحترم الحس والفكر والحق بلا حسبانية ولا افتراء؛ ولهذا قيل (العلم لا اختلاف فيه) يعنون نتائج التجربة بشروطها وأحوالها.. وأبسط مثالٍ أَعُدُّه ساذَجاً أن تستقرَّ التجربة على أن هذا الجهازَ المصنوعَ خيرُ ما يُسَيِّره البخار بإذن الله، أو أن البخار أيسر مؤونة في تسييره.. وأن تستقر حقيقة التجربة الاكتشافية على أن هذا الكوكب يسير بقياس مُعَيِّن تقديره يقيناً أو رجحاناً بكذا وكذا، وأن من عناصره الوجودية (التي هي مادة للكيمياء) عنصر كذا وكذا.. فإن ظلَّ العلمُ بكل ذلك نظرياً لم يصل إلى درجة العلم المطلق فإن ذوي الاختصاص يعكفون على مواصلة التجرِبة بإصغاء واحترام لأحكام العقل؛ فيحدِّدون الجزئيَّ اليقيني مما عرفوه، والجزئي الرجحاني، والجزئيات الاحتمالية.. وبرهان كل ذلك أن التجرِبة قابلة للإعادة في كل آن وَفْق شروطها وأحوالها.
قال أبو عبدالرحمن: هذه لمحة موجزة عن أرضية التجربة حينما يكون الإنسان صانعاً لها، وحينما يكون الإنسان شيئاً من الأشياء فيكون أرضية ذليلةً لتجربة الآخر بعد الشتات الذي بُليتْ به أمتنا؛ فما موقعنا اليوم في تلك الدَّوَّامة؟!.. لا أستطيع الاستقصاء، ولكنني أذكر ظواهر قليلة؛ فإنني أقرأ وأسمع مقالات تجزيئية انهزامية خَلَّفت تعدُّد الهويات، وخيانةَ الكيان؛ فكلُّ مَن أشرف على المُسْتَجدِّ، وأخذ بالميزة، وطرح المجمل، ولم يَرْتدَّ عن القانون الرياضي (وهو أداة العلم المادي) لنور الله المُشاع بين خلقه، وهو مصادر الحس وأحكام العقل: فإنه يقال عنه لَمَّا طرح المجملَ غيرَ النافع: (إنه شاخ، وتجاوزه العصر؛ فلم يَعُدْ كما كان رائداً).. وعصره لم يتجاوزه في الواقع، وإنما تجاوز هو تفاهات عصره.. إن تلك المقولة الذميمة إملاءٌ من الآخر بتلَقٍّ ذليل يُؤذَى به كلُّ مَن أعلن بالبراهين العلمية تفصيلاً وإجمالاً موقفَه الديني والقومي والوطني، وإن أرادوا إنصافه بزعمهم هجوه بصيغة التوجيه البلاغي المتظاهرة بالمدح، ونتيجتُها الهجاءُ كقولهم عن ذلك العالم الغيور: (إنه استاذ جامعة، ودودة كتب)؛ فهذا المديح نتيجتُه أنه من الحُواة لا غير!!.. إن هوِيَّتنا تقوم على بناء معياريٍّ رَأَى كلُّ راصدٍ أنه الشرطُ الضروريُّ لمنجزات العلم المادي؛ فأبسط مثال في حقل الأدب أن نُصْغي بعقولنا، وأن نفتح كل حواسنا على كلِّ طرحٍ حداثي أو تراثي مُتَلَقِّين لا متمذهبين؛ فإذا أردنا تحقيق موقفنا فسبيلنا التنظير النقدي الذي يكون من الفكر الرياضي، والأمانةِ مع ديننا الذي تلقيناه بذلك المعيار.. وسبيلنا شَرف الأخلاق تجاه هموم أمتنا وكيانها، وشفافيهُ الإحساس الجمالي بنظريته المعيارية أيضاً التي غايتها أن لا يكون هناك قُبحٌ ولا برودة.. ومُتْعتها سُمُوُّ التعبير، وسَعَةُ الدلالة، والتذاذُ القلب.. أفنحن مسلوبو الموهبةِ إذا انفتحنا على المُسْتجِّدات؛ فيكون من الشرط أن نكون في حضانَةِ الآخر من مِليٍّ ونحلي وشعوبي وطائفي يُرَبِّي سلوكَنا كما يريد هو لا كما نريد نحن وعندنا زكاء (بالزاي) الفكر وذكاؤه - بالذال -، وكرم وشرفُ الهُوِية، وثراء الكيان؟!.. إنه إذا كان قدرنا بعد ذلك أن نتلقَّى المُستجدَّ من الإبداع الأدبي لنبتكر النموذجَ العالمي الرائد: فلماذا لا يكون لنا النموذج الفني المتفوِّق في العالم؛ فتكون لنا بصماتٌ رائدة في العالم؟!.. إن أمّتَنا في تاريخها الجهوريُّ تُعطي أكثر مما تأخذ؟.. إن الآداب والفنون بمعيارها الجمالي مشـروطةٌ قبل هذا المعيار بالتعامل الفكري العلمي البرهاني الذي يَعْمُر المُعْتَقَدَ والسلوك، ويُفيضُ على البشرية خيراً فكرياً برهانياً يهبها الطمأنينة القلبية.. ورسالة العالِـم المسلِـم المفكر الفنان أن يُضْفِي على الجمالية الإطار الكريم من الِحسِّ الديني والوعي الفكري؛ ليستخرج ولو قلائلَ من أدباء العالم الذين قُبروا في متاهات الإباحية والعدمية؛ فَنُقابِلَ استرحال الجماليات للتضليل بالتجنيح بها في فضاء الاستقامة والوعي بوجود كريم غير عدمي؛ لأن من رسالته التي اكتسب بها الخيريَّة أن يكون هادياً مهتدياً لمواجهة زبالات من النهي عن المعروف والأمر بالمنكر.. وإنما اكتفيت بهذه المسائل الجمالية، وهي تؤدِّي إلى سلوك عَقَدي وحَرَكي إن خيراً أو شراً، ولا حَيلة لي في معالجة أمور قدرية لم يجعل الله بعد لأمتنا أن تملكها بالله ثم بزنْدٍ قويٍّ من علم طبيعي يُحقِّق استنباطاً مُكْتَشَفاً من نواميس الكون، ويُحقِّق مصنوعاتٍ حاجِيَّةً وقوَّةً عسكرية ندفع بها عن أنفسنا؛ وإنما نملك ورعَ المؤمن بالدعاء بتحقيق سُنَّته في دفع الناس بعضهم ببعض، وأن لا يجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، وأن ينجينا من القوم الكافرين.. ولن يُخذلَ من أوى بالضراعة إلى ركن شديد.. وأمور الفكر معتقداً وسلوكاً في شتات بغيض خَلَّف مجتمعات تعيش بإباحية الخنازير، وعدوانية السباع الضارية، ولا مبالاة المجانين.. مع أن العصـرَ عصـرُ التفوُّق المادي في كل مُنْجز حضاري، وهكذا وجدنا سنة الله الكونية في التاريخ، فكل تألُّقٍ في جانب من جوانب الحياة يُعايشه جهالة ورخاوةٌ وترف وانحدار بالوجدان الإنساني.. والعلم المادي الذي أصبح من منجزاته حقائق مشهودة ملموسة هو كما أسلفت: لا خلاف فيه، ويحترم العقل، ويبني على ضروراته.. وليس كل البشر من رجال ذلك العلم، وليس كل البشر يتحمَّل أن يعيش على الهامش؛ لهذا اضطروا بتضليل أو بشهوة أن يُرى لهم مكانٌ مرموق بين أهل العلم؛ فَوُلِدت بذلك أوجهٌ غير حضارية تُزامن العلم الحضاري.. وأقبح هذه الوجوه التراكم الفلسفي الذي أبدع حِسْبانية المَعْرفة، وعبثية الوجود، وتمزيق الفطرة بأكثر من سلوك غير سوي.. أجد مثلاً مذهباً طبيعياً في الفلسفة الجمالية يصوغ نتائجه الجمالية بعناصر تجحد النِّعم الإلهية والعناية الإلهية.. أجد مثلاً الأدب الشفهينتقل إلى مصطلح الفلكلور - ومعناه دونيٌّ -؛ لِـيُـصَنَّفَ في مصادره أقدسُ مصادرِ الأمة في تراثها وإرثها.. أجد مثلاً ظاهرة في السلوك الاجتماعي تتضخم رويداً رويداً؛ لنأخذ مصطلح الغربة والاستلاب، وأهم قضايا هذا المصطلح يُضادُّ كلمة (السلام) في لغتنا العربية؛ فتنتهي حقائق هذا المصطلح (الذي أصبح شبه فنٍّ مستقل؛ لكثرة ما ألف فيه) إلى أن ابن آدم لقيط في هذه الأرض، موكول إلى عقله المخلوق وحسه المخلوق.. وكأن الذي خلق عقله وحسه لم يهب له ديناً يجلب له السلام بدلاً من الاستلاب.. وأرى جمهرة هذا التراكم الثقافي الفكري تلتقي على إصابة العقل البشري بالخبال، وأرى السلوك الهيبي في المقالة والخاطرة والقصيدة والقصة والرواية والدراسة والبناء الفلسفي يحل محل الجبروت العقلي لدى كثير أرادوا بحريتهم السلوكية أن يكونوا مغتربين مْستلَبين.. أرى كل عربيٍ مبهورٍ ضائعٍ تأخذه حَـمَّى الصرع فيسـرق تاريخ أمته بالإنكار أو يبهته، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.