عندما قررت السفر جمعت من مكتبتي كتباً تجاوزت الوزن المسموح به مما اضطرني أن أدفع مبلغاً من المال، لكنني كنت سعيداً بأن يكون رفيق سفري كتاباً أو (شلة) كتب.. فما يزال في يقيني أن خير جليس في الزمان كتاب كما قال مولانا المتنبي، وهذا ما رأيت ان شعوب الامم المتقدمة يفعلونه في حلهم وترحالهم وفي سفرياتهم
القصيرة والطويلة وكأنهم أخذوا بنصيحة المتنبي ولم نأخذ بها! من ضمن الكتب التي قرأتها عند وصولي إلى وجهتي كتابان شدني تشابه عنوانيهما، فالاول هو كتاب (مزرعة الحيوانات) لكاتب اسمه جورج اوريل والكتاب الثاني بعنوان (تداعي الحيوانات على الانسان) كتبه اخوان الصفا وهم جماعة من المفكرين عاشت بالبصرة إبان النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي، والكتاب الاخير تأليف جماعي!.
الكتاب الاول مزرعة الحيوانات سبق ان قرأته منذ فترة طويلة وهو كتاب من الحجم الصغير عبارة عن قصة (رمزية) كتبها جورج أوريل تقريبا في العام 1950م تبدأ القصة بالسيد جونز الذي يعيش في انكلترا ولديه مزرعة يعيش فيها عدد من الحيوانات التي لا تحظى بالعناية والاهتمام الكافي من قبل السيد جونز. في إحدى الليالي قررت الحيوانات ان تتمرد عليه لانها ضاقت بظلمه لها وتقتيره عليها! لتعلن انها تريد ان تحكم نفسها بنفسها.. الحيوانات قررت الثورة على السيد جونز الذي لا ينتج شيئا.. يأخذ بيضها ويجز الصوف ولا يطعمها بما يكفي ويسومها سوء العذاب.. وراحت الحيوانات تغني (ياحيوانات انكلترا اتحدوا يا حيوانات ايرلندا اتحدوا! ياحيوانات كل ارض سيطاح بالانسان الطاغية)! كان هذا هو النشيد الذي أثار حماسة الحيوانات وفجر ثورتها! ( لن يطأ حقول انكلترا الا الحيوانات وحدها.. ستغيب القيود من أنوفنا والسروج عن ظهورنا وسيصدأ اللجام والمهماز) كان هذا مقطعا من نشيد الثورة.. عندما غنته الحيوانات اطلق السيد جونز بضع رصاصات على المخزن والذي كان هو بمثابة (ميدان) الثورة!! خنازير ثلاثة بدأت تتصدر المشهد.
شرارة الثورة بدأت عندما مس الجوع الحيوانات فهاجمت المستودع لكن السيد جونز تصدى لها الا ان الحيوانات أبدت شجاعة متناهية وهي تتصدى لرصاصات السيد جونز الذي قرر الهرب من المزرعة بعد هذا التمرد!.
بعد رحيل السيد جونز اجتمعت الخنازير بالحيوانات وبشرتها بعهد جديد من الحرية والشبع، وفي نهاية القصة تسيطر الخنازير على الوضع بعد ان كونت حرسا من الكلاب تمنع باقي الحيوانات من رؤيتها ! وتتفاجأ كل الحيوانات ان الخنزير الذي كان يبشرها بالعدل والمساواة خرج عليها ذات مرة يلبس ملابس السيد جونز ويدخن غليونه!!.
في قصة اخوان الصفا “تداعي الحيوانات على الانسان” اتخذت لاحداثها جزيرة يقال لها (بلاصاغون) وهي جزيرة تقع في وسط البحر الاخضر، وهي طيبة الهواء والتربة وفيها انهار عذبة كثيرة الريف والمرافق وفنون الاشجار وانواع الثمار، وفي هذه القصة او الرسالة ايضا الحيوانات تتمرد ولكن بشكل أخف، حيث تكون طريقتها حضارية فتسعى إلى نصب محكمة لتحاكم الانسان وتمكنه من الدفاع عن نفسه.. فالحيوانات ثائرة في مزرعة الحيوانات وهي محاورة في تداعي الحيوانات على الانسان، ورسالة إخوان الصفا تشكلت من أربعة عشر فصلا، ويمكن القول انها أربع عشرة لوحة أو مشهدا مسرحيا، لكن النهاية لدى اخوان الصفا كانت مفاجئة وسريعة ولم تكن مبررة، وقد استدعى اخوان الصفا حكيم الجن وملكها كطرف محايد ليحكم في النهاية بأن تبقى الحيوانات تأتمر بأمر الانسان وتطيعه. لكن لا يمكن اغفال الاشارات التي بثها اخوان الصفا في مضامين هذه الرسالة المهمة والممتعة والثرية بمعلومات عن المخلوقات والارض والافلاك لم أكن اتوقع انها معلومة في ذلك الزمان!
الشخصيات في هذه القصة او الرسالة أو الملحة كما يسميها البعض متنوعة، فقد عمد اخوان الصفا إلى وضع ثلاثة نماذج من الشخصيات هم البشري والحيواني والجن، ملك الجن هو (بيرواسب الحكيم) وهو شخصية محورية في هذه القصة يشاركه عدد من قضاة الجن اتى بهم اخوان الصفا ليحكموا بين الحيوانات وبني البشر، تبدأ القصة عندما جنحت السفينة والتي كان يستقلها سبعون رجلا من عدد من بلدان الارض إلى تلك الجزيرة، وهذ الفكرة تم التطرق لها في عدد من الافلام العالمية والمسرحيات، الحيوانات في هذه القصة تحاكم الانسان وتحاوره بالحجة والذي ادعى عليها انه السيد وانها العبيد، ملك السباع وهو الأسد وملك الطيور وهو السميرغ والجوارح تقدمتهم ملكتهم العنقاء وحيوانات البحر تقدمهم التنين وملك الهوام الثعبان.
اخوان الصفا بدؤوا قصتهم بعاصفة بحرية تعصف بمركب يرسو على تلك الجزيرة (بلا صاغون) بعدما استقر بركابها الحال بدؤوا يتعرضون للحيوانات التي كانت تعيش بأمن وسلام، بهدف السيطرة عليها وترويضها واستخدامها لكن الحيوانات رفضت الانصياع وجدوا في طلبها لانهم يعتقدون أن الحيوانات عبيد لهم، ولجأت الحيوانات إلى بيرواسب ملك الجن ولقبه شاه مردان لتشكو إليه الأمر وقام ملك الجن بدعوة بني الانسان لعرض شكاواهم على الحيوانات (عبيدهم الابقين) واستدعى الملك البهائم ليسمع ردها وبدأ كل طرف يعرض ادعاءاته ويبدي دفوعه الواحد تلو الآخر.
ويشكل إخوان الصفا محكمة بادعاء وقاض وخصوم يتجادل فيها الخصوم بالحجة والحوار وتكون فيها المرافعات على أعلى مستوى يكون فيها الانسان مدعياً وأحياناً مدعى عليه، ويكون الحيوان ايضا مدعيا واحيانا مدعى عليه، محور النزاع في هذه القضية هي ادعاء الانسان بالسيادة على الحيوانات، النتيجة صدرت باعتبار أن البشر يتميزون عن غيرهم من المخلوقات وأمر ملك الجن جميع الحيوانات تحت أوامر الانس وينقادون لهم.
هذه الرسالة مليئة بالمعارف والعلوم والوصف الدقيق لاصناف الحيوانات وحياتها واصنافها وطبيعتها والبهائم والدواب والهوام وما يعيش في البر والبحر وصفاً دقيقاً يماثل إلى حد كبير ما نقرؤه أو نشاهده في الافلام الوثائقية من طبيعة تلك الحيوانات، ويقول اخوان الصفا في نهاية قصتهم: لقد بينا في هذه الرسالة ما هو مطلوب على الانسان تجاه الحيوانات، فلا تظن بنا ظن السوء ولا تعد مقالاتنا ملعبة الصبيان ومخارفة الاخوان لان عادتنا جارية على اننا نبين الحقائق في الفاظ وعبارات على وجه الاشارات وتشبيهات على لسان الحيوانات ومع هذا لا نخرج ما نحن فيه، عسى ان يتأمل المتأمل في هذه الرسالة ويتنبه من نوم الغفلة ويتعظ من مواعظ الحيوانات وخطبهم ويتأمل كلامهم واشاراتهم، لعله يفوز بالموعظة الحسنة.
ويصف (ديبور) رسائل اخوان الصفا في كتابه تاريخ الفلسفة في الاسلام بانه اشبه ما تكون دائرة معارف مرتبة تضم علوم ومعارف ذلك العصر وتدل على ان اخوان الصفا اصابوا حظا وافرا من الرقي الفكري، ولذلك يمكن اعتبار تداعي الحيوانات على الانسان دائرة معارف موجزة تعرض في قالب رمزي فلسفي، وتوجز تلك الرسالة تاريخ العلاقات بين الانسان والجن حتى ظهور الاسلام بل ان الرسالة مليئة بالاوصاف التشريحية والفسيولوجية لكثير من الحيوانات والطيور والدواب، وركز اخوان الصفا على تبريرات تفوق الانسان على الحيوان وتميزهم عنها برجحان العقول وتنوع الفنون وغرائب الاداب ودقة الصنائع والفكر وذكاء النفوس ولطائف الحيل، لكن هذه الرسالة تنتقد سلوك الانسان وتصرفاته وحياده عن الصراط المستقيم ولسوء انتفاعه بالعقل والشرائع وتركه اخلاق الملائكة وتخلقه احيانا بأخلاق الشياطين، وانتقدت الرسالة ايضا تصرفات البشر تجاه بعضهم البعض وتجاه الحيوانات فيقول النمر للاسد: ولكني ارى ان العلماء والقضاة من بني ادم قد تركوا هذه الطريقة التي تقول انها من اخلاق الملائكة واتخذوا التعصب والبغضاء وسيلتهم، ففيما يتجادلون من الغلبة والشناعة من الصياح والغلبة والجلبة ونجدهم في مجالس الحكام والقضاء يفعلون ما ذكرت وتركوا استعمال الادب والعدل.
وختاماً فإن اخوان الصفا في مؤلفهم لا يمتلكون النفس القصصي لدى جورج اوريل، فهم ايضا حاولوا متأثرين بكليلة ودمنة ان يكشفوا ما تعانيه الحيوانات من قبل الانسان، ولكنها لم تكن تعني ذلك بالضبط، فـ (تداعي الحيوانات على الانسان) تذهب بعيدا إلى اسقاط واقع تعامل الانسان مع الحيوانات الا واقع تعامل البشر مع بعضهم، وهذا ما اتفق عليه جورج اوريل واخوان الصفا! لكن من المستغرب ان يلجأ اخوان الصفا إلى هذا الاسلوب الرمزي في زمن لم تكن فيه اية قيود أو رقابة على النشر!.