الصحوة نتيجة خليط من أمور عدة، وقد كان هامداً حتى توفر له المناخ المناسب والماء الذي بعث فيه الحياة والرحم الحاضن لمخاضه حتى اهتز وربى، ولكنه لم ينبت من كل زوج بهيج بل أنبت حشفاً وشوكاً.. {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}.
وكون أن أفغانستان والثورة الخمينية وانتهاء طفرة النفط قد تزامن مع الإرهاصات الأولى للصحوة، فلا يعني هذا أن نشأة الصحوة كانت نتيجة ردة فعل سياسية أو دينية، أو اقتصادية محضة. فهذه كلها لا تعدو أن تكون عوامل مساعدة لا تقوم بنفسها.
انغلاق المجتمع السعودي كان أحد أهم مكونات الخليط الهامد، وانكشافه جزئياً على أفغانستان وإيران جعلته يتطلع للمعلومة ولم يكن هناك إلا الخطاب الديني من الدعاة الشباب والمجاهدين، مما قد يكون قد مهد للأمور بعد ذلك، ولكنه ما كان له أن يقوم بنفسه لولا حرب الخليج. فحرب الخليج كانت أول صدمة انكشاف فكري إجباري واسع للمجتمع السعودي المنغلق على العالم الخارجي المتطور وعلى النزاعات الفكرية السياسية والدينية في العالم العربي والإسلامي.
والمجتمع السعودي -بعموم أفراده لا بخصوصهم- غير مُحصن فكرياً حصانة علمية، بل بحصانة منع وممانعة.. فالمجتمع السعودي ليس له ثقافة فكرية ولا تفكير منطقي خارج الثقافة الدينية التطبيقية، ومنطقها في منع المنطق.
فحرب الخليج كانت هي المحضن الذي شكل الصحوة في صورتها الكاملة، وهي الرحم الذي تمخضت فيه ثم انطلقت منه. والمخاض الذي أفرزته حرب الخليج لم يجد من يوجهه، فالتقطه بعض الدعاة الشباب الغُر المتحمسين، الذين لم تكن لهم أهداف ولا نوايا آنذاك. اللهم أنهم وجدوا فراغاً اجتماعياً فكرياً فملؤوه من ثقافة المجتمع التي يعرفها، وهي الثقافة الدينية. فانكشف المجتمع فكرياً -في جو حرب الخليج -المشحون- على نقد جريء وعلى أحاديث بأمور كثيرة لم يكن يألفها كانت من المسكوت عنه وقد غلفت بالخطاب الديني الذي من المفترض به «الأمانة والمصداقية» كما يعتقد كل أهل دين برجال دينهم.
هذا الانكشاف الفكري -في رأيي- كان هو سبب الولع الشبابي بالصحوة، والذي جذب اهتمامه بها في بداياتها قبل حرب الخليج بقليل (كأشرطة التحذير من الحداثيين وأشرطة الدوسري عن الماسونية في معهد الإدارة). ومن ثَم، ازداد زخم الولع الشبابي بالصحوة واتجه لتبني أفكارها، إثناء حرب الخليج -والتي اضطرت فيه الأجهزة الإعلامية المراقبة للمهادنة آنذاك- مما رفع سقف النقد والهجوم الخطابي، ممن يُسمون بالحركيين اليوم. وقد كان نقد الأجهزة الحكومية والخطاب الديني الرسمي والإدلاء بآراء تخالف الموقف الرسمي للدولة وللخطاب الديني آنذاك يعتبر شجاعة لما فيه من تحدي كامل للسلطة.
والنفس البشرية عموماً تستهويها الشجاعة والكرم، وتنقاد لصاحبها. ولذا كان من أعظم أشعار العرب قولهم « لولا المشقة ساد الناس كلهم، الجود يفقر والاقدام قتال». وقد ذهبت طفرة البترول، فما عاد هناك للحكومة من كرم مقدُورٍ عليه، فوقعت النفوس أسيرة ومستسلمة لخطب الحركيين الجريئة، واستعاضت بها عن كرم الحكومة التي اعتادت عليه من قبل، ومن ثم انقادت لأشخاص هؤلاء الدعاة والخطباء.
فخطب ومحاضرات ممن يسمى اليوم بالحركيين السلفيين عندنا على اختلاف ميولهم الدعوية المنهجية كانت هي الماء الذي أحيا هذا البذر الخليط من أمور كثيرة، وهو الذي جذب الشباب إلى الصحوة وإلى التدين بأشرطتها ومساجدها.
ومن بعدُ، فما لبث أن ظهرت المقاومة المبُطنة والعلنية لهؤلاء الحركيين من جهات عدة، سواء أكانت لدوافع شخصية كالحسد والتنافس، أو لأسباب سياسية وأمنية -داخلية وخارجية-، أو لدوافع منهجية أو مذهبية. وقد اجتهدت كل جهة ومدرسة من هؤلاء لجذب هؤلاء الصحويين التُبع لها باتهام الآخرين وإظهار عيوبهم.
والنفوس تختلف في ميولها الفطرية كاختلاف أخلاق الحيوانات بعضها عن بعض. فهناك من ميوله سبعية عاتية معتدية، وهناك من ميوله مهادنة كالغنم، وهناك من تغلب عليه الحمية لجماعته الأقربين فيميل لمذهبهم، وهكذا. وتبعاً لهذه الميول الفطرية والعرقية والجغرافية لكل شاب، كان هؤلاء الشباب ينقسمون -بعد انضمامهم للصحوة على أيدي الحركيين- في اتجاهاتهم المنهجية الدينية إلى المدارس المنهجية الموجودة والتي كان من أهمها المدرسة السلفية الرسمية، والسلفية الجامية (وهم المتشددون في العقيدة) والسرورية (وهم الإخوان السلفيون)، والسلفية التكفيرية، وأخيراً المدارس الأخرى المحايدة أو الخارجة عن الإطار السلفي بالكلية، كالصوفية أو المدارس المذهبية. فالتدين الصحوي قد غزا جميع البيوت والعوائل وكبار السن، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم بالعدوى الاجتماعية التي تنتشر كصرعة في المجتمع لفترة معينة ثم تزول لتقادمها أو بزوال مسبباتها أو بقدوم صرعة أخرى، (وعلماء الاجتماع هم أفضل من يحلل الصحوة من هذا الباب).
وجماع ما سبق أن حرب الخليج هي التي هيأت للصحوة المناخ الملائم، وأما تربتها فكانت ضعف التحليل المنطقي عند المجتمع السعودي، بسبب اعتياده على التلقي دون التفكر والمسائلة، فهو تربة خصبة جعلته يتقبل الأطروحات الجديدة الصحوية دون تحليلها. وأما بذر الصحوة فهو أمية المجتمع السعودي الثقافية خارج ما يحفظه من أوامر تطبيقية دينية. وأما سقاؤها الذي أحياها من مماتها فقد كانت خطب شباب الدعوة».
وفي اعتقادي أن زبدة الدروس المستفادة من الصحوة وأهمها هو أن المجتمع السعودي -بعموم أفراده لا بخصوصهم- مجتمع ضعيف فكرياً ومنطقياً وثقافياً أمام الانكشاف الخارجي. سواء أكان هذا الانكشاف دينياً أو عسكرياً أو سياسياً أو اجتماعياً، وهذا ناقوس خطر له شواهد عدة، وهو استطراد لعلي أكتب فيه لاحقاً.