(وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» فهل يُلام نبي الله يوسف الصديق على أن تحرشت به امرأة العزيز؟!! أم أنه كان مستحقًا للسجن تعزيرًا بأنه فتن النسوة بجماله عليه السلام فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ؟!! أم أنه كان من الواجب عليه أن يحتجب أو يتلثم أو يشوّه نفسه لكي لا يفتن النساء؟
وقد كان دحية الكلبي -رضي الله عنه- من أجمل الخلق. وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء (2-554): «قال أبو محمد بن قتيبة في حديث ابن عباس: كان دحية إذا قدم، لم تبق معصر إلا خرجت تنظر إليه، والمعصر: التي دنا حيضها، كما قيل للغلام: مراهق، أي راهق الاحتلام…» ثم قال الذهبي: «ولا ريب أن دحية كان أجمل الصحابة الموجودين بالمدينة، وهو معروف، فلذا كان جبريل ربما نزل في صورته». وقال الزمخشري: «وكان دحية مفرط الجمال، وكان جبريل عليه السلام يأتي في صورته». (الفائق في غريب الحديث والأثر: 1 / 301).
فهذا جبريل عليه السلام كان لا يظهر للناس إلا على أجمل صورة رجل عرفتها أعينهم، وما كان جبريل عليه السلام مُخيرًا بل مَلَكا مُسيرًا من رب العالمين. خالق الخلق، وفاطر الفطرة البشرية.
«إِذا كُنتَ تَخشى العارَ في كُلِّ خَلوَةٍ… فَلِم تَتَصَبّاكَ الحِسانُ الخَرائِدُ» التجمل عند الرجل السوي هو من أجل جذب انتباه المرأة. ولا يعني هذا فساد الرجل ولا نيته للفاحشة، بل هي فطرة سوية فطر الله الرجل والمرأة على انجذاب أحدهما للآخر، والاهتمام بجلب انتباهه. وما تحسر الشعراء على الشباب إلا من أجل ذلك كقول أحدهم «رأيْنَ الغواني الشيبَ لاحَ بعارضي... فأعْرَضْنَ عني بالخدودِ النَّواضرِ، وكنَّ إذا أبصرنني أو سمعنني... سعَيْن فَرَقَّعْن الكُوى بالمحاجِرِ».
وأذكر أنني رأيت مدير بنك وقد ظهر عليه الاهتمام بمظهره وشكله، فسألته هل توظف عندك نساء مؤخرًا؟ فأجاب لا، ثم استطرد فقال: كان هناك برنامج تدريبي بالكاد يحضره الموظفون متأخرون وهم قذرون وغير مبالين، حتى انضمت إليهم امرأتان. فما أسرع ما تغيّر حالهم شكلاً وعقلاً واهتمامًا وحضورًا. ولا يعني هذا قصد الفساد من هؤلاء الشباب المتدربين، بل هي الفطرة السوية في حب تجمل الرجل للمرأة.
فيا عباد الله ويا من يدعي العقل، إن كان هذا في الرجل فطرة سوية فهو في المرأة أضعافًا مضاعفة. ولكن المرأة أقل من الرجل كثيرًا في رغبة الجنس، وهي أبعد من الرجل في الوقوع في الفاحشة بمراحل ضوئية. ورغم ذلك، فالمرأة كلّما زاد وتضاعف حب تزينها وجذب الأنظار إليها، زاد اقترابها من فطرتها الأنثوية السوية في حب التجمل وجذب الانتباه والأنظار والتي احتج بها الخالق سبحانه على المشركين كأمر معلوم لا يخالف فيه إلا أحمق أو مجنون، قد رُفع عنه القلم. حيث قال سبحانه في كتابه مستشهدًا بهذه الفطرة في المرأة أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ ، ثم اتبع سبحانه ذلك فاستشهد بأنها لا تُحمل كثيرًا من الخطأ والمسئولية فأكمل الآية سبحانه فقال عنها وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ .
عجيب هو والله هذا الأمر!! كيف خالفت ثقافة المسلمين فطرة وحقيقة لا ينكرها إلا أحمق أو مكابر، وكيف خالفت الآية مرتين، مرة في أولها ومرة في آخرها. فيُحط من قدر المرأة في تحملها للمسئولية وفي عقلها وفي حكمتها، ثم إذا ما تجمّلت المرأة اُتهمت في عرضها وشرفها ونيتها. وإذا ما تُحرش بالمرأة أو أوذيت أو اغتصبت، اتهمت بالمسئولية وعُوقبت! فيا لله كم من جرائم شرف سُكت عنها من جراء ذلك. هذا أمر تُجوهلت فيه فطرة الخالق، وأُعرض فيه عن العبرة من يوسف عليه السلام وعن إقرار نبينا لدحية ومباركة رب العالمين لهذا الإقرار بإرسال جبريل على صورته. ثم قد يتبع البعض فيه الساقط واللاقط من الآثار -عقلاً أو مناسبةً أو مكانةً أو سندًا- كأثر نفي الفاروق لنصر بن حجاج لجماله، التي إن صحت فلا يحتج بها أمام إقرار الرسول ورب العالمين لدحية رضي الله عنه.
ما تردَّد أخيرًا عن بعض المواقف تجاه أحكام التحرش بفتيات الشرقية ونحوه من القصص التي تُروى، هو أمر ثقافي تدعمه بعض المواقف القضائية مثله مثل دعوى «الخضيري والقبيلي وكفاءة النسب». ويكفي أن استشهد بخطاب سماحة مفتي الديار محمد بن إبراهيم للملك فيصل -رحمهما الله- في قضية امرأة اُخذت من بيتها ثم اُغتصبت فحُكم عليها بالجلد كما جاء في المجلد العاشر من الفتاوى «من محمد بن إبراهيم إلى حضرة صاحب السمو الملكي رئيس مجلس الوزراء حفظه الله»…. « فتجدون برفقه المعاملة الواردة منكم برقم 5726 في 24-3-1380هـ المتعلِّقة بدعوى ...ضد ... من أنه تعدى وأخذ ابنته وأخاها من بيته .... في غيابه وأواهما بداره في .... مدة أربعة أيام وأنه فعل الفاحشة في البنت وأزال بكارتها.
ونفيد سموكم أن جرى دراسة أوراق المعاملة، كما اطلعنا على القرار الصادر في القضية من فضيلة قاضي مستعجلة … وبدراسته وتأمله ظهر أن ما قرَّره فضيلة القاضي من إدانة…، وما رآه من أنه يسجن ستة شهور ويضرب في كل شهر ثلاثين سوطاً صحيح . وأما ما قرّره أنه يغرم أرشاً عوضاً عن إزالة بكارتها فهذا ليس بظاهر لما يلي:
أولاً: أنه لم يثبت أن المدعى عليه هو الذي أزال بكارتها.
ثانياً: أن البنت متهمة بمطاوعتها له؛ لأن ذهابها له برضاها واختيارها دليل واضح على ذلك، لذا فإنه ينبغي تعزيرها بنحو ثلاثين جلدة. والسلام. رئيس القضاة (ص-ق 287 في 20-4-1380هـ)».
وأقول: رحم الله الأولين وجمعنا بهم في مقر صدق تحت عرشه يوم القيامة، وقد كانوا رجال الزمان والمكان بحقٍّ وصدق، ولكن لليوم رجاله فلا يصلح اليوم بالأمس، ولا الأمس لليوم، فخلط هذا بهذا، ظلم للسابقين واللاحقين.