بعد أقل من أسبوع من مغادرته فلسطين المحتلة، يعود إليها اليوم السيد جون كيري، لتهدئة العواصف التي أثارتها جولته السابقة من المحادثات مع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، والتي أثارت عاصفة من الانتقادات، وردود الفعل على الجانبين، من الأفكار التي كان قد تقدم بها مستشاره الأمني والعسكري الجنرال جون ألن، وبني على أساسها أفكاره التي تقدّم بها للجانبين، والتي تقوم على أساس فلسفة حل مرحلي وأمني بين الطرفين، وقد راعى فيها مطالب إسرائيل التوسعية، والأمنية، في الأراضي الفلسطينية، بما يضمن بقاء قوات الاحتلال الإسرائيلية في منطقة الأغوار الفلسطينية، وعلى الحدود مع الأردن ونقاط أخرى داخل الضفة الفلسطينية مع حرية الحركة والتنقل للقوات الإسرائيلية فيها حسب احتياجات الأمن الإسرائيلي! كل ذلك دون مراعاة لحقوق الفلسطينيين ومطالبهم المشروعة، وما يترتب لهم من حقوق سيادية على أراضي دولتهم الموعودة، ودون أية مراعاة لمبادئ الشرعية الدولية، ولمبدأ (الأرض مقابل السلام) الذي انطلقت منه عملية السلام في مؤتمر مدريد أكتوبر 199م.
ومن جهة أخرى يكون قد منح الاحتلال جوائز، ومكافآت لم يكن يحلم بها في أي مرحلة من مراحل احتلاله للأراضي الفلسطينية والعربية، فكافأه ببقاء الاستيطان والتوسع على حساب الأراضي الفلسطينية وبقاء الاحتلال تحت ذرائع أمنية واهية، لا تستقيم ومبدأ التسوية المنشودة.
وقد قوبلت هذه الأفكار والخطط بالرفض الواضح والصريح فلسطينياً على المستوى الرسمي والشعبي، واعتبرت بمثابة طلقة الرحمة إلى جوهر وقلب عملية السلام، كما أفقدت جون كيري وحكومته دور الراعي النزيه لعملية السلام، وباتت تنذر باندلاع انتفاضات فلسطينية جديدة، واندلاع دورات عنف جديدة بين الجانبين.
ورغم الانحياز الواضح في هذه الأفكار والخطط لمطالب الجانب الإسرائيلي فقد سارع أيضاً العديد من المسؤولين الإسرائيليين وعلى رأسهم نتنياهو إلى تبديد الأجواء التفاؤلية، التي حاول السيد كيري إشاعتها عقب جولته السابقة، ليؤكّدوا على شروط إسرائيل التعجيزية لإتمام أي اتفاق سلام مع الفلسطينيين، والمتمثلة في إقرار الفلسطينيين (بيهودية الدولة الإسرائيلية)، وإسقاط (حق العودة) للفلسطينيين إلى ديارهم التي أُخرجوا منها، وبقاء القدس موحَّدة (عاصمة لإسرائيل)، وبقاء القوات الإسرائيلية في الأغوار الفلسطينية وعلى الحدود الشرقية وفي أماكن عديدة لضمان أمن إسرائيل والإسرائيليين.
إن هذه الشروط التعجيزية تكشف عن مدى رفض إسرائيل وتركيباتها السياسية لأي شكل من أشكال التسوية مع الفلسطينيين والانسحاب من الأراضي المحتلة، ورفضها لمجمل المبادئ التي قامت على أساسها جهود عملية السلام.
ماذا يحمل جون كيري اليوم من أجل تهدئة العاصفة التي أثارتها جولته وأفكاره السابقة، وقد مهدت له الناطقة باسم الخارجية الأمريكية بالتصريح أنه لا يسعى إلى حل مرحلي، وإنما إلى حل نهائي واتفاق نهائي، ليقلّل من المخاوف الفلسطينية ويهدئ من ردة الفعل التي صاحبت تلك الأفكار السابقة، فماذا سيقول السيد كيري للفلسطينيين بشأن مستقبلهم ومستقبل أراضيهم المحتلة والاستيطان والأسرى وحق العودة والقدس والحدود...
هل يريد أن يقدّم لهم رشوة اقتصادية جديدة للسكوت، وامتصاص الغضب، وكسب مزيد من الوقت، يغطي فيه على العجز الذي تظهره الولايات المتحدة عن فرض حل مقبول للطرفين، أم سيلوح بعقوبات جديدة على السلطة الفلسطينية إذا ما أذعنت لهذه الأفكار الطوطمية، والمغرقة في الانحياز للرؤية الإسرائيلية، لشكل العلاقة المستقبلية مع الفلسطينيين، وما هي حدود الرشوة السياسية، والأمنية، العسكرية والاقتصادية التي سيتقدّم بها في هذه الجولة لرئيس وزراء الكيان الصهيوني للموافقة على الرؤية الأمريكية للحل، وعلى جملة من المتغيّرات في السياسة الأمريكية الشرق أوسطية!!
لا أعتقد أن السيد كيري سيتمكَّن أو قادر على إرضاء نهم إسرائيل وحكامها العنصريين، دون مواجهتهم بحقيقة المتغيّرات الجارية في المنطقة وفي العالم، وفي مقدّمتها أن الوطنية الفلسطينية، قد وصلت إلى مرحلة اللا عودة، واللا تراجع عن مطالبها المشروعة، في إقامة دولة مستقلة قابلة للحياة، ورفض كافة أشكال انتقاص السيادة عليها، على حدود الرابع من حزيران 1967م، وإطلاق سراح كافة الأسرى، وتفكيك المستوطنات والانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، وحل مشكلة اللاجئين وفق الشرعية الدولية، وأن القدس الشرقية أرض محتلة يجب الانسحاب منها، وأنها ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية، بغير ذلك لن يجد كيري وأفكاره قبولاً لدى الفلسطينيين، ولن يجد أملاً في التوصل إلى اتفاق سلام أو تسوية دائمة دون ذلك، ولن يتمكّن من الخروج من عين العاصفة، فهل يمارس ضغطه على حكام الكيان الصهيوني ليعودوا عن غيهم وغطرستهم، والتزام مبادئ الشرعية الدولية والعدالة في التوصل إلى تسوية نهائية وسلام دائم قبل أن يفوت الأوان، إني أشك في ذلك..!