يرى بعض العلماء المهتمين بدراسة الثقافات، مثل جيري لوتمان، أن حوار الثقافات وتأثرها ببعضها البعض الآخر، أو حتى صراعها، هو الحالة الطبيعية في الكون، وأنه لا توجد ثقافة أيا كان مكانها أو زمانها لم تتأثر بما حولها من ثقافات إلا ربما بضع قبائل كانت قابعة في أواسط
غابات الأمازون، وحتى تلك وصلها المبشرون بالديانات منذ فجر هذه الديانات. كما أن الحوار بين الثقافات ندر ما كان متكافئاً بل إن الثقافة الأضعف تبدي عادة ضعفا، وانبهارا، وسرعة تأثر بالثقافات الأخرى. وربما يعكس ذلك سرعة تأثرنا بما يردنا من ثقافات أخرى.
وكتب صامويل هنتجتون في عام 1993 في مجلة “فورين أفيرز” وهي مجلة سياسية غير أكاديمية، وغير محكمة مقال بعنوان “صراع الحضارات”، استقبلته الثقافات العالمية بدرجات متفاوتة من الاهتمام والانفعال. فقد ورد ذكر لجميع ثقافات العالم في هذا المقال: الصينية، واليابانية، والبوذية، والهندوسية، والتركية، و أمريكا الجنوبية، والحضارتين الأوربية والإسلامية. و لم تنفعل ثقافة بهذا المقال مثلما انفعلت ثقافتنا العربية الإسلامية، وخصوصا في المملكة التي اهتمت كثيرا بالرد عليه.
وأتمنى أن يكون جميع من تكلم عن المقال، أو ذكره، أو ردد مصطلح هنتجتون “صراع الحضارات” اطلع على المقال بلغته الأصلية وليس مترجما، فالترجمة تفقد المقال الكثير من أصالته اللغوية، وتخرجه من سياقه الحضاري، لاسيما وهو مقال متعلق بالحضارات، والحضارات جميعها لها تاريخ وتراث خاص بها يشكل البعد الفكري والقيمي التي ترى من خلاله العالم من حولها، وهو أيضا ما يحدد رؤيتها لأحداثه التاريخية وطبيعة علاقاتها مع الحضارات المجاورة. والمقال ورد في سياق خطاب تحليل سياسي متواصل ومتواتر في دوائر السياسة الأمريكية وفيه حوارات خفية مع نصوص أخرى خاصة ذات علاقة في هذا الخطاب تظهر في اختيار العبارات والمصطلحات، وهذه جميعها تختفي في الترجمة.
ولم يشهد تاريخ هنتجتون البحثي، رغم أنه باحث متخصص في مجالات سياسية ضيقة، أنه كان باحثا مؤثراً، بل عرف عنه أنه باحث محافظ يلامس دائما الخطوط الحمراء للعنصرية في كثير مما كتب عن تاريخ الانقلابات وحركات التحرر للشعوب غير الغربية، ومنطقه دائما ينطلق من “مركزية منطقية غربية” منها يرى أمريكا تجسيد لقمة الحضارة الإنسانية، ويقلل بها من شأن كل ما هو غير مسيحي غربي، ولا يستثنى من ذلك مقاله هذا الذي تلقفه البعض دون تمحيص، و أولوه من الاهتمام أكثر مما يستحق، بل جعلوا منه فزاعة فكرية غربية تنذر بالدبور وعظائم الأمور. فالأطروحة الأساسية للمقال ليست لهنتجتون بل لبرنارد لويس، والأخير من أهم الباحثين المستشرقين المحدثين، وهو أكثر أصالة وتأثيراً وحضوراً من هنتجتون، سواء إن اتفقنا معه أو اختلفنا، وهذ يتضح بجلاء من الاقتباس الذي أورده هنتجتون من لويس ص 11 في المقال، وربما هو السبب الذي منع هنتجتون من نشر فرضيته في مجلة علمية واختار مجلة سياسية عامة له عوضا عن ذلك، لأن الفرضية الأساسية ليست له. والاقتباس ورد هكذا (مع التصرف في الترجمة):
نحن أمام مناخ وحركة (سياسية) تتجاوز مستوى القضايا والسياسات والحكومات التى تمارسها. فنحن أمام مناخ لا يقل عن شكل “الصراع بين الحضارات”، صراع ربما يكون غير عقلاني ولكنه يشكل ردة فعل تاريخية من خصم تاريخي ضد تراثنا اليهودي-المسيحي، ووجودنا العلماني، وتوسعهما على مستوى العالم.”
ما فعله هنتجتون بفرضية لويس هذه هو أنه حذف كلمة اليهودي من مصطلح التراث اليهودي-المسيحي، وأبقى عليها كحضارة المسيحية حصريا، ثم لت وعجن بها بأمثلة عشوائية وأحيانا متناقضة، وبأمثلة غير صحيحة وغير منضبطة أحيانا ليثبت أن هناك فرضية سياسية جديدة مفادها أن الأشكال الجديدة للصراعات السياسية تتجاوز المصالح التوسعية، والاستعمارية، والإيدلوجية المعهودة لتأخذ شكلاً حضارياً أساسه ديني. ولم يبخل علينا باقتباسات من سفر الحوالي، وصدام، والخميني، والملك حسين ليثبت فرضيته، وهي اقتباسات انتقائية اجتزئت من سياقاتها الخطابية، و تم تجاهل أنها كانت من قبيل الخطابات الدعائية للاستهلاك المحلي، والدعائي، والإيديولجي، ولم تكن عبارات في مقالات علمية لتشخيص واقع علمي أو سياسي.
هنتجتون يرى أن حروب القرون الوسطى كانت حروب أباطرة، وأمراء لتوسيع ممالكهم، وحروب أوربا كانت صراعات قومية، ثم تلت الحرب العالمية الثانية حروب إيديولوجيات: الاتحاد السوفيتي الاشتراكي؛ وأمريكا وأوربا ممثلتان للاقتصاد الحر. وكان الاتحاد السوفيتي وأمريكا تضمان قوميات وديانات مختلفة. ثم انهارت الإيديولوجية الأولى وتركت العالم الحر بقيادة أمريكا على قمة العالم، فانتهت الصراعات الإيديولوجية في رأيه وبدأ صراع الثقافات المؤسسة على الأديان. ويستعير هنتجتون من الجيولوجيا مصطلح خطوط التخلخل بين الكتل الكبرى، fault lines ، ويفترض خطوطاً مشابهة تشكل نقاط التقاء وتصادم الحضارات على أساس ديني فقط!! و يعرج بطبيعة الحال على حرب العراق، وجنوب السودان، وأفغانستان وغيرها ليثبت أن هناك صراعاً إسلامياً مسيحياً للحضارات. ويتضح أن كل الصراعات الأخرى التي أوردها في المقال مجرد تمويه لتمرير هذه الفرضية التي لم تخل في أي جزء منها من انصاف الحقائق و التعميمات المخلة.
وأطروحة الصراع الدائم بين الثقافتين اليهودو-مسيحية والإسلامية، بحكم مجاورتها التاريخية والعقدية هي أيضا للويس وليس هنتجتون، وهي موضوع نقد إدوارد سعيد للويس في كتابه المعروف”الاستشراق”، وإدوارد سعيد، كما يتضح من اسمه، ليس مسلماً بل مسيحيا، وهو من أصل عربي يعرف الإسلام معرفة عميقة مثل معرفة لويس له، ولكن البعد الثقافي الذي ينظر به سعيد للقضية وهو بعد مسيحي شرقي يختلف عن البعد اليهودي-المسيحي الغربي للويس. وكان أحد المداخل المهمة التي انتقد فيها سعيد لويس هي عدم تحديد لويس لمفهوم دقيق لكلمة “ثقافة” culture حيث يوجد، حسب سعيد، ما يقارب 300 تعريف متداول لهذا لمصطلح “ثقافة”، فلم يحدد لويس أيا منها. وهذا ما وقع فيه هنتجتون أيضًا، فهو استهل مقاله بالحديث عن اختلاف الثقافات cultures وربط الثقافات بالأديان ثم خلص إلى أن الحضارات هي المراكز العليا epicenters التي تظل الثقافات المتشابهة، فالثقافات العربية، والتركية، والأوردية، والتشادية، والبوسنية، وثقافة مهاجري أوربا رغم الاختلافات بينها يظلها مركز واحد كلّي هو الحضارة الإسلامية. و هنتجتون لا يفرق أيضا بين أي من الحقبات التاريخية للحضارة الإسلامية، لأنه كأجنبي عنها لا يرى تفاصيلها بل يراها ككل جامد. ومن هذا الخلط غير الدقيق يتساوى هنتجتون مع القاعدة، وداعش وغيرها في تصورهم للحضارة الإسلامية.
ويخفف هنتجتون أحيانا من مفهومه للصراع clash ويصوره على أنه في حدوده الدنيا يأخذ شكل التفاعل interaction وليس الاقتتال، ولكنه لا يلبث أن يسقط في فخ التعميم والعنصرية عندما يذكر، مثلاً، أن “تحديث أفريقيا” عبر التبشير المسيحي (المسيحية جاءت لتحديث أفريقيا فقط) خلقت بشكل غير متعمد منطقة تخلخل إسلامي مسيحي هناك، وصراع للحضارتين في جنوب السودان، صراع تغذيه، حسب هنتجتون، صورة العرب النمطية لدى الأفارقة كتجار رقيق، وهذا كلام عام ينم عن جهل أو تجاهل هنتجتون بتاريخ تجارة الرقيق في قرون الاستعباد الذي مارسته ثقافته، و جهله بمراكز ترحيل الرقيق من أفريقيا لأوربا على السواحل الغربية لأفريقيا ذاتها، وعن قرون من الاتجار بهم عبر الأطلنطي، وأن كثيراً من الرقيق الذي تم الاتجار بهم كانوا من المسلمين، وأن الكنائس كانت من أكبر المؤسسات التي تتاجر بهم وتروج لتجارتهم، بل إن مزادات الرقيق كانت تقام خارج الكنائس يوم الأحد، وقد أصدرت الكنائس آنذاك فتاوى تقول إن الإنسان الأسود لا تنطبق عليه تعاليم المسيح لأنه مرحلة وسط بين الإنسان والحيوان، وأن إحساسه بالألم أقل بكثير من إحساس الإنسان الأبيض، ولذا فاسترقاقه لا يتعارض مع التقوى المسيحية. وربما شهد هنتجتون نفسه الذي مات عام 2008م عن عمر يناهز الست و الثمانين عاماً مرحلة الرق في أمريكا، وحركة الحقوق المدنية ولا يمكن أن يكون غير مطلع عليها.
وخلاصة القول هذا المقال غير علمي، وغير دقيق، و ثبت اليوم أن كل ما تنبأ به غير صحيح، فأمريكا لم تعد القوة المسيطرة بلا منازع على العالم، والنزاعات والمجازر في أفريقيا ارتكبتها قبائل مسيحية ضد أخرى. و للأسف فقد كانت ردة الفعل عليه متسرعة، و مبالغ فيها فالصراع الذي يهددنا فعلاً كأمة وكوطن اليوم صراع المذاهب والطوائف الإسلامية، وليس صراع مع حضارات أو ديانات أخرى. وقضيتنا ليست مع البوذي، والهندوسي، والكاثوليكي، والشنتو بقدر ما هي مع دول في جوارنا تسيس وتجيش التاريخ الإسلامي ضدنا. فصراع المذاهب اليوم أولى بالدراسة من صراع الأديان والحضارات.