الدواء يعالج أسباب المرض والمسكنات تخفف وطأة أعراضه فقط، فلا يلبث أن تعود الأعراض مرة أخرى وربما بشكل أشد بعد زوال مفعول المسكنات.
هذا المنطق الطبي ينطبق أيضا على كثير من الأمور وعلى وجه الخصوص الأدواء الاجتماعية، فللمجتمعات أمراضها وأوجاعها التي تتطلب معالجة أسبابها لا أعراضها، ويجب أن يكون الدواء مناسبًا، وناجعًا، وكافياً.
الحملة التي قامت بها بعض الجهات المسئولة على العمالة المخالفة لا شك مفيدة للمجتمع، وهي تشكر عليها رغم بعض الأعراض الجانبية التي أفرزتها مثل الإضرار ببعض المواطنين الذي أجبرتهم الظروف للتعامل مع ما هو متاح من العمالة قبل الحملة دونما معرفة بنظامية وضعها. وكذلك خلق سوق سوداء لتعقيب وإنهاء الإجراءات بين العمل والجوازات.
والحملة في مجملها جهد تنظيمي وإشرافي كبير طال انتظاره وتأخر أمده. ولكن يبقى السؤال الأهم: هل عالجت الحملة أسباب الأزمة أم خففت أعراضها فقط؟
لب القضية هو تأشيرات الدخول للمملكة، وممارسة العمل فيها، وهي بحد ذاتها لا مضرة منها وممارسة في جميع المجتمعات الأخرى، فالفيز تمنح للوافد الذي يفترض به أن يسهم في دعم قطاع الخدمات والأعمال في المملكة.
وكان الأمر في بداية الأمر متاح لجميع المواطنين الذي يرغبون في الاستقدام ممن لديهم سجلات تجارية.
ولم تكن هناك حينئذٍ أي سوق سوداء للفيز، وأصبحت مشكلة فقط عندما تحولت لتجارة وعمل في حد ذاتها، أي بعد انتشار فكرة في بعض البلدان خارج المملكة التي تفد منها العمالة أن المجتمع السعودي يوفر أفضل الفرص للثراء السريع دونما قيود أو رقابة.
فالقضية إذاً تكمن في كيفية معرفة الطريقة التي تحولت بها الفيز إلى تجارة مغرية في حد ذاتها.
فالمشكلة بدأت من أول يوم دفع فيه أول وافد ثمن لفيزا دخول المملكة لمواطن نتيجة لوضع المملكة قيود على منح الفيز وتمكن البعض من تجاوز هذه القيود بطرق مختلفة بحيث أصبح لدى البعض فائض من الفيز يبيعها لمن لديه حاجة ونقص لها، أو لوافدين بيتوا النية ليسرحوا ويمرحوا بموجبها دونما رقابة أو تنظيم.
وكانت الفيز الأعلى سعراً تدفع للبلدان التي لم يكن من السهولة إصدار فيز لها لأسباب مختلفة.
وأصبح الوافد يدفع قيمة للفيزا ويحاول تعويضها بأي طريقة كانت في السوق السعودية التي تصبح مفتوحة تماما بمجرد تجاوزه الحدود.
راجت تجارة الفيز بعد أن أصبحت تباع بسعر مغر، وتفاقمت بشكل كبير في غفلة من عين الرقيب لعدم إدراك المجتمع لخطورتها، وظهرت أنشطة تجارية وهمية هي في حقيقتها واجهات لبيعها.
وساعد في ذلك فئة من المواطنين لديها قدرة على الحصول على عدد كبير من الفيز، وقلدتها فئات أخرى لم يكن لها نصيب من العلم أو التدريب شكلت الفيز مصدر رزق لها، ولذا نجد أن عددا كبيرا من المؤسسات الكافلة للعمالة باسم سيدات في مناطق لا علاقة لها بقطاع الأعمال من قريب أو بعيد، ولكن النظام يسمح لها بإصدار سجلات تجارية دونما ضوابط أو قيود.
فانتشرت الأنشطة التجارية بأسماء وهمية يديرها وافدون بصورة فعلية، ومع تكاثر عدد المتاجرين بالفيز، وزيادة المعروض منها، انخفضت قيمتها فاتجه الكثير للتحايل لزيادتها من قبيل التعويض.
وساعد انعدام الرقابة شبه التام على أنشطة المؤسسات والشركات على انتشار سمعة في الخارج في بلدان الوافدين بأنه بمجرد الدخول للمملكة يستطيع الفرد أن يمارس أي عمل يدر له مال وفير حتى بدون تأهيل، وبالتحايل على المواطنين الذين تركوا بلا حماية ناجعة.
فانتشرت المؤهلات الوهمية انتشار النار في الهشيم في ظل عدم وجود جهات مهنية تدقق فيها، ويقال إن كثيرا من العمالة تحضر بدون أي تأهيل وبمجرد أن يتم تدريبها وتأهيلها على حساب المواطن في المملكة تغادر لبلدان أخرى.
فلا يوجد أي تنظيم للمهن سواء كان ذلك جمعيات، أو اتحادات، أو مشرفين، أو غيرها، كما أنه لا يوجد أي رقابة على العقود، ولا توجد مقاييس أو عقود موحدة، ولا حتى جهات لتحكيم الخلافات المهنية، فالجميع يحال للشرع والإجراءات طويلة ومكلفة بما جعل الكثير يصرف النظر عنها.
وباختصار، نحن خلقنا البيئة الملائمة والمغرية لبعض الوافدين لغزو بلادنا وشراء فيزنا، ومنحنا الفرصة لبعض المواطنين ليعبثوا بالبلاد كيفما يريدون.
وخسر المواطنون كثيرا من أموالهم وصحتهم جراء تلاعب العمالة وكفلائها الصوريين بهم، وتردت الأعمال والخدمات بشكل كبير.
ضعف الرقابة والتنظيم لسوق العمل أسهم أيضا في ظاهرة هروب العمالة المنزلية التي أصبحت تحضر للمملكة بهدف الهروب، وبنية مبيتة لذلك، المواطن يدفع قيمة فيزا الوافد وتذكرته وكشفه الطبي فيهرب بمجر معرفة طريق من سيشغله، لأنه بمجرد هروبه يجد مسرح العمل مفتوح بالكامل أمامه.
ونتيجة لتوسع شركات كبرى للأسف في مشاريع تفوق بكثير إمكانياتها، وبسبب نظم إرساء العقود التي تعمل وفق أسلوبين متناقضين لا يراعيان إمكانيات المقاول: الأول التعميد المباشر (“كوست بلص)، أو نقيضه الآخر مبدأ العطاء الأقل سعرا، وأصبح لدى كثير من الشركات مشاريع تفوق طاقتها العمالية فأصبحت الفئة الأولى تمنح الفئة الثانية المشاريع من الباطن، واتجه الجميع لتوظيف العمالة الهاربة برواتب أفضل من عملها في المنازل أو لدى كفلائها الأصليين، وأصبح هروب العمالة المنزلية قاعدة اجتماعية، ولم تجد استغاثات المواطنين بالجهات المسئولة نفعا، وأصبح الاستقدام مع ذلك من أكثر مجالات التجارة ربحا.
ومما زاد الطين بلة هو استحداث هيئة الاستثمار نظاما يسمح للعمالة بالتحول لمستثمر بمبالغ زهيدة ولمهن متواضعة ومنحت لها تسهيلات لاستقدام مزيد من العمالة، وطبق ذلك في غباب التنظيمات والتشريعات والضوابط اللازمة لتنظيم ممارسة المهن.
وما فتحته هيئة الاستثمار حاولت وزارة العمل رتقه بنظام تنظيري رائع لنطاقات العمل دفع لتوظيف كثير من السعوديين بشكل وهمي، واستقدام الكثير من الوافدين بشكل حقيقي. وهنا اتضح نقص التنسيق الواضح بين الجهات المختصة المختلفة في كثير من الأمور.
مربط الفرس إذاً، ومكمن علاج مشكلة العمالة ليس في الحملات، ولا في تسوية أوضاع المخالفين وقتيا، بل في تنظيم سوق العمل بشكل دقيق عبر إصدار تشريعات متوسعة ومتنوعة تتلاءم في حجمها مع حجم وتنوع سوق العمل لدينا.
تشريعات تقيد ممارسة المهن، وتجعل البت في المنازعات حولها سريعا وحاسما بحيث تقيد حيز تلاعب الوافد بالوطن والمواطن.
ومع احترامي الكبير لجهود إصلاح القضاء لدينا إلا الكثير من الموارد التي خصصتها الدولة لذلك ذهبت لمؤتمرات وندوات ودورات تدريبية لم يلمس المواطن لها أثر يذكر.
ولو وجهت لتدريب الشباب السعودي على فصل المنازعات في مهن معينة حسب أصول التعاقد في هذه المهن وألحقوا بأقسام الشرطة أو أقسام البلديات، أو محاكم جزئية مهنية تنشأ لهذا الغرض، لحد ذلك من مجال تلاعب الوافد وثرائه السريع.
فالبلديات تسجل كل من يعمل في حيها أو نطاقها وتسجل كافله وتتحقق من مؤهله.
وهذا معمول به في دول خليجية مجاورة.
الحملة التي نشهدها اليوم أتت بأمور جيدة وهي ربط صرف الشيكات بالكفيل لا المكفول لأن ذلك يساعد على ضبط زكاة المؤسسة، وضبط دخل الوافد.
وكذلك في ربط السعودة بنزول رواتب حقيقية لا وهمية في حساب الموظفين السعوديين. ولكنها لم تطال الأسباب الحقيقية لركض الوافدين وراء فيز الدخول للمملكة وهي فوضى سوق العمل، وهي كذلك خلقت مشاكل جانبية من أهمها انتشار ظاهرة ما يسمى بالمعقبين الذي يكيفون للوافد أي وضع يريده مقابل المال، والأخيرة تحولت لسوق سوداء مغرية جدا لبعض ضعاف النفوس.
وهنا يجب أن نذكر أن تجارة الفيز أصبحت لها عصابات مثل عصابات الممنوعات، وكلما زاد التضييق على الممنوعات توسعت السوق السوداء لها وارتفع ثمنها.
ولذا لو نظمت سوق العمل بشكل جيد ومنحت الفيز لكل من يحتاجها فعلاً ونظاما لاختفى الإدمان عليها وتقلصت سوقها السوداء، فالفيز يبيعها من لا يحتاجها على من يحتاجها.
وكل ما يتمناه المواطن هو ألا تعود الفوضى كما كانت ولكن بشكل رسمي.
وألا تكون الحملة كالمهدئات فقط. والله من وراء القصد.