لا أعتقد بوجود دولة صرفت من الأموال ما لا يحصى للحصول على بنية تحتية جيدة مثل السعودية، لكنها لم تصل إلى نفس الجودة النوعية التي وصلت إليها دول أخرى بتكاليف أقل وتنفيذ أسرع وضمانات أطول وأوثق. عندما نتسلم مفاتيح مستشفى جديد، كلفنا بناؤه مئات الملايين وبدأ العمل فيه قبل شهور فقط، ثم مع أول موسم مطير تنهمر المياه من السقوف فتغرق المعدات والتجهيزات بداخله ويتعطل العمل فيه، حينئذ ماذا نفعل؟.. بالطبع سوف نقوم بتشكيل لجان تحقيق ونقدم شكوى إلى القضاء الشرعي ضد المقاول والشركة المنفذة. لكننا بعد ذلك على الأرجح سوف نتمنى أننا لم نفعل، لأن سنوات الانتظار سوف تمتد وتمتط وتطول، فالقضاء عندنا يحتاج إلى طول بال لا يخطر على البال.. في النهاية سوف نكتشف أن المقاول مع الشركة سوف يستمر في بناء مشروعات أخرى وفي جمع الفلوس نهاراً، ثم الاستلقاء على قفاه ليلاً ليستمتع بالضحك علينا حتى يغلبه النعاس.. شيء من هذا القبيل حصل في مدينة جدة في سنة الغرقة، وكانت الخسائر مئات الوفيات وأعداد كبيرة من الممتلكات الخاصة والعامة، وحتى الآن لم يصدر من القضاء حكماً قاطعاً يتناسب مع هول الفاجعة وكمية الإهمال المتسبب فيها.
أعود لحالة المستشفى المذكور في البداية مرة أخرى.. مالك المستشفى الغريق هو الحكومة، ممثلة بالوزارة، وهذه ممثلة بإدارة المشروعات فيها، وهذه هي التي اختارت تلك الشركة وذلك المقاول الذي سبق أن عرفناه مستلقياً على قفاه كل مساء لشدة الشعور بالغبطة والأمن والأمان.
في هذه الحالة ماذا تفعل الحكومة، الممثلة بإدارة المشروعات نيابة عن الوزارة؟.. مرة أخرى تتقدم إدارة المشروعات نيابة عن الوزارة نيابة عن الحكومة بتشكيل لجان التحقيق وبتقديم شكوى إلى القضاء ضد الشركة والمقاول.. سوف يحدث نفس الشيء وبنفس متطلبات وشروط طول البال، حتى يصل القضاء إلى البت في القضية، وحينئذ يكون المقاول قد غادر البلاد أو مات بإحدى أمراض الترف المعيشي.. أما المستشفى المذكور فيكون قد تحول إلى أطلال، والفلوس حولت إلى الخارج، قد حولها المقاول أو حول حصته منها، والحصص الأخرى توزعت على جيوب كثيرة؛ مسألة المستشفى سوف تنتهي على الأرجح بهذه الطريقة.
والآن لنقل أن لدينا مطاراً صمم على أحدث طراز خارجي، وبلغت تكاليفه ما يكفي ويزيد عن تكاليف خمسة مطارات أكبر حجماً واستيعاباً وأفضل جودة نوعية منه، لكن في دول أخرى ثم ومع كل موسم أمطار يتمناها المستغيثون بقلوب خاشعة، ما يلبث مطارنا هذا الذي هو من أهم واجهاتنا الحضارية، أن تتسرب المياه من أعلاه لتغرق أسفله بما في ذلك صالات الركاب وعفش المسافرين ومكاتب الموظفين، فلمن نشتكي حينئذ؟.. بالطبع لن نشتكي إلا إلى الله، لأن المطار مطار حكومي، والقائمون عليه قد عينتهم الحكومة، والشركة المنفذة بنته بموافقة الحكومة، وأموال الصيانة الهائلة تصرفها الحكومة.. هنا على الأقل ليس للقضاء الشرعي دور، لأن المسألة كلها مسؤولية الحكومة التي عليها أن يتصرف بعضها مع بعضها الآخر، أما من تضرر عفشهم فقد كان عليهم أن يغلقوا حقائبهم جيداً تحسباً لمفاجآت الطقس التي زادت قليلاً عن توقعات أرصادنا الجوية والدفاع المدني وفرق صيانة المطار.
على هذا المنوال لدينا أيضاً أنفاق جديدة، مضاءة بالكشافات بالليل والنهار، ومزودة بكاميرات المراقبة من نوع ساهر، ذلك النوع الفعال الذي لا يترك شاردة ولا ماردة إلا لقطها، والأنفاق هذه جديدة لم تتخطَ سن الفطام بعد، ثم مع أول أمطار يتمناها قلب الصحراوي العطشان تتحول أنفاقنا إلى بحيرات تغرق فيها المركبات وتعوم مثل كراتين الفلين، لشدة تلاطم الأمواج وغزارة المياه المحتجزة بداخلها، بعد أن صرفنا عليها ألوف الملايين وانتظرنا تشغيلها لعدة سنوات.
لمن نشتكي عندئذ؟.. للقضاء الشرعي أم للنزاهة، ومن نشتكي، هل نشتكي البلديات أم الأمانات أم وزارة المواصلات..؟.
في النهاية سوف نكتشف أن الشكوى لغير الله مذلة.. هناك خلل رهيب، فساد رهيب يلتهم أموالنا وأعصابنا وأوقاتنا وطموحاتنا التنموية، وحش رهيب لا يشبع ولا يرتوي، يستطيع إفشال كل محاولات الكشف عنه وتقييده وتقديمه للمحاكمة، ناهيك عن شق بطنه واسترجاع ثرواتنا المنهوبة من تلافيف أمعائه الطويلة، التي تشفط في الداخل وتصب في الخارج.
نقول حسبنا الله ونعم الوكيل، وذلك أحسن ما يختتم به العاجز في الحياة الدنيا في انتظار عدالة الآخرة.