ساهمت التقنيات الجديدة ومواقع التواصل الاجتماعي، في نشر ثقافة التشدد والتطرف، بالمقابل ساهمت كذلك في نقد هذا الخطاب والتقليل من شأنه، بعد أن كان هو الخطاب الأول السائد في مجتمعنا، والذي يواجه من يختلف معه بالويل والتخويف والترهيب، كما حدث قبل أكثر من عشرين عامًا أيام بزوغ نجم الصحوة، وأخذه كافة الصلاحيات للتلاعب الفكري داخل المدارس والكليات والجامعات، فكنا -آنذاك- في المدارس إما أن ننضم إليهم و “نلتزم” كما كان هذا المسمى سائدًا، أو أننا سنُقابل بالويل والثبور والاقصاء وتشويه السمعة، حتى أنني أتذكر -كثيرًا- من النساء كنّ يرتدين عباءة الرأس فقط أمام المجتمعات التي تتكاثر فيها الجماعات النسائية المتطرفة، وكان هذا من باب “التمثيل” حتى لا تفقد سمعتها ويتم إقصاؤها بالكامل!
كثيرة هي مظاهر الغزو الصحوي، منها ما استيقظ المجتمع ورفضه، ومنها ما هو سائد لغاية اليوم، مثل فرض عباءة الرأس الفضفاضة على جميع العاملات والطالبات في المدارس، وكأنها شكل لحقيقة الحجاب، الذي هو في واقعه لا يعني أكثر من “الستر” ولم تعرف جداتنا ولا أجدادنا -أنزلهم الله في جنات النعيم- هذه الأشكال الجديدة للعباءة وغيرها من المظاهر المجتمعية إلا بعد الغزو الفكري الصحوي.
هذا الشكل الفكري الذي أثر بشكل مباشر على المجتمع السعودي، تراجع كثيرًا، بعد أن انشقت عنه أهم قياداته، وإن كان هذا الانشقاق ليس خروجاً بالكامل، إنما هو تعامل حديث مع المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتغيرة، مع محافظة هذه القيادات على الإطار الفكري العام، وتطويع “القِطع” الجانبية المتحركة والتي لا تؤثر على الأركان، بما يتماشى مع مصالحها الشخصية أولاً، ومع الأحداث المحيطة ثانيًا. لذا تركت هذه القيادات الصغائر الفكرية، لصغار طلابها، وهم ما زالوا يتماشون مع المجتمع بنفس الطريقة القديمة، التي لم تعد تأخذ ذلك القبول الذي كانت تأخذه في زمن أزمة الخليج وما قبلها بسنوات قليلة، وهذا يعود إلى الوعي المجتمعي الذي بات ينبذ التشدد والتطرف، وأصبح قادرًا على الخروج عن الانقياد دون وعي ولا تفكير، لكنه باق في الحفاظ على السنن النظامية التي سنتها القوانين “الصحوية” مثل ما ذكرت أعلاه “عباءة الرأس” التي كانت قضية القضايا، ولم يكن الفكر المجتمعي في ذلك الوقت قادرًا على صد ذلك الخطاب لشدة انتشاره وأخذه الطابع الرسمي.
الآن، لم يعد المجتمع يتقبل هذه الفروض الترهيبية التي نجحت في الماضي، لكنها لم تتطور إلا باستخدام الأدوات التكنولوجية الحديثة لبث نفس الفكر الذي لم يعد يخيف الناس، ولا يثير عاطفتهم الدينية لأن الوعي والتمييز أخذ بظلاله على المجتمع في العشر سنوات الأخيرة التي تم فيها التركيز على بناء الفكر والإنسان، ليتماشى مع البناء التنموي والحجري المحيط به، لذا بات هذا الخطاب “البالي” محط تندّر وسخرية الناس، بمن فيهم من كانوا يخافونه أو يحترمونه في يوم (ما) من الماضي.
ليس أمامنا إلا الجدية في سرعة الخلاص من هذا الشكل الفكري الذي عرقل حياتنا سنين طويلة، هذا الفكر بدأ المجتمع -نفسه- في إنهائه، إلا أن رواسبه التي ما زال يتمسك بها من ينتفع به، بحاجة إلا انتفاضة فكرية “نظامية” تُعيد هيكلة الفطرة الدينية السوية التي ميّزت أهلنا وأجدادنا، بعيدًا عن شوائب التشدد!.