هناك مقولة أمريكية شهيرة لوصف العلاقة التي يشوبها حب وكره في آن واحد، هذه المقولة هي «Love Hate Relationship»، وتعني علاقة الحب والكراهية. والمقولة الأمريكية لا تقصد بالكره ما هو متعارف عليه في العقل الجمعي بالبغض، بل تقصد ما يمكن وصفه بالعتب بين أطرافها بسبب الخلافات التي قد تنشب بين هذه الأطراف، سواء كانت هذه الأطراف ممثلة في صورة أخوة أو أصدقاء أو دول.
وقد تردد في الآونة الأخيرة، ومن خلال تقارير صحفية متعددة، أن هناك سوء فهم عميق يعصف بالعلاقات السعودية الأمريكية، والسؤال هو عن مدى صحة هذه التقارير، وهل حقاً هذه العلاقات وصلت إلى حد يجعل وصفها بالمتأزمة وصفاً لا يجانب الحقيقة؟ للإجابة عن هذا التساؤل لا بد في البداية من التطرق لمنشأ هذه العلاقات، وتتبع تطورها لتشكيل صورة واضحة عن ماضي وحاضر ومستقبل هذه العلاقة.
تاريخياً، بدأت العلاقات السعودية الأمريكية في التشكل قبل بداية الحرب العالمية الثانية مع بدء شركة ستاندرد أويل أف كاليفورنيا (شيفريون حالياً)، للحفر في العديد من المناطق في الجزء الشرقي من المملكة، وبدون نتائج مشجعة، إلى أن جاء الثالث من شهر مارس عام 1925م، لتبدأ من تلك اللحظة تشكل علاقة وثيقة بين البلدين، نتجت من تدفق هائل لخام النفط في ذلك اليوم؛ ليعلن للعالم دخول المملكة منتِجاً أساسياً لهذا الخام الذي أصبح شريان الحياة الحديثة. ازدادت العلاقات تطوراً بين البلدين بعد هذا الاكتشاف الحيوي الذي نقل المملكة نقلة جوهرية؛ لتغدو من أهم الدول المؤثرة في المنطقة وفي الاقتصاد العالمي. وتُوجت هذه العلاقة المميزة بلقاء الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن المدمرة الأمريكية كوينسي «USS Quincy» في مصر، وتحديداً بمنطقة البحيرات المرة. ومنذ هذا اللقاء التاريخي بين الزعمين توطدت العلاقة بين البلدين، وغدت الولايات المتحدة الشريك الأساسي للمملكة في أغلب مشاريعها الإنمائية، ومكّن هذا التعاون المملكة في المحصلة النهائية مع بداية الثمانينيات من القرن المنصرم من تملك شركة أرامكو كافة؛ لتصبح شركة سعودية بالكامل.
وتوقع بعض المحللين أن ما حصل سيؤدي إلى الحد بشكل كبير بين علاقات البلدين، ومع أن هذا التوقع لم يكن مخطئاً بالكامل استمر التعاون بين البلدين. وقبل تملك المملكة حصص شركة أرامكو بالكامل نشبت حرب العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر عام 1973م، التي فرض خلالها العرب بقيادة المملكة حظراً نفطياً على تصدير النفط للغرب. وبدأ الحظر جزئياً ليتطور ليكون شاملاً في مرحلة لاحقه. وتحدثت الكثير من البحوث والدراسات، بلغ عددها من دون مبالغة الآلاف، بأن ما حدث من حظر سوف يؤثر في مفاصل العلاقة بين المملكة وأمريكا، بيد أن قوة العلاقة بينهما كانت أقوى من كل التكهنات التي توقعت أنها ستكون ضربة قاصمة لعلاقاتهما، ومع ذلك تجاوزاها كأي شريكين حقيقيين يمران بخلافات ورؤى مختلفة. ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، التي أحدثت هزة لكيان المجتمع الأمريكي؛ كونها المرة الأولى التي تتعرض فيها أمريكا لضربة داخل أراضيها إذا استثنينا العدوان الياباني على أسطولها البحري في بيرل هاربور، بولاية هاواي القابعة في المحيط الهادئ، على بُعد آلاف الأميال من الساحل الأمريكي الغربي. وطبعاً، انشغلت وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية بآلاف الساعات من التحليلات المحرضة ضد المملكة، ولكن قوة العلاقة أثبتت مرة أخرى أنها علاقة عميقة، تنبع من تفهم كل طرف منها للآخر، وأنها علاقة صداقة حقيقية، لا علاقة عابرة نابعة من تحقيق مصالح وقتية. وأكدت أحداث الحادي عشر من سبتمبر المثل القائل بأن (العاصفة التي لا تقتلعك تجعلك أقوى صلابة).
ومع كل ذلك، فلا شك أن العلاقة تأثرت عبر تاريخها بالعديد من القضايا، لعل أهمها القضية الفلسطينية، والمملكة تعلن دوماً استياءها ورفضها الدعم الكامل لإسرائيل فيما يخص هذه القضية. ولا شك أن ملف القضية الفلسطينية أهم ملف شائك يواجه جوهر علاقة البلدين. ولقد فرح العرب والمسلمون بانتخاب الرئيس أوباما، وفرحوا أكثر بخطابه في القاهرة؛ إذ أعلن أن أمريكا تتصالح مع العالم الإسلامي. بيد أن ما تلا ذلك كان مخيباً للآمال، فإسرائيل استمرت في تعنتها ورفضها للمبادرة العربية واستمرارها في بناء المستوطنات حتى خلال مهلة الأشهر التسعة التي أعلنتها أمريكا لطرفَي الصراع. وكان سجل أوباما الديمقراطي مخيباً للآمال مع الصراع العربي الإسرائيلي، حتى أن سجل الرئيس الجمهوري السابق بوش الأب المعروف بتأييده لإسرائيل كان مميزاً في مجابهة إسرائيل إذا قورن بسجل الرئيس أوباما؛ إذ فرض بوش الأب عقوبات اقتصادية مؤلمة ضد إسرائيل عندما لم تنصت لأمريكا بوقف بناء المستوطنات. وكذلك كان الحال مع سجل الرئيس بوش الابن الذي حرك مفاوضات السلام، واقترح حل الدولتين.
خيبة الأمل في سياسات الرئيس أوباما كانت أكثر وضوحاً في الشأن السوري؛ فهو من صرح من قبل بأن استخدام نظام الأسد السلاح الكيماوي سيكون الخط الأحمر الذي لن تسمح به أمريكا. واجتاز نظام الأسد الخط الأحمر بشكل مفجع وبالغ الوحشية بقصفه غوطة دمشق في أغسطس المنصرم بالغازات السامة، وكانت النتيجة فاجعة وطامة كبرى، رآها العالم، مجزرة لمئات القتلى، نسبة عالية منهم من الأطفال، وهم ممدون على الأرض في مشهد غاية في السوداوية والدراما، مشهد تنفطر له أكثر القلوب قسوة. وتحركت أمريكا، ولكن ليس لنصرة الشعب السوري المغلوب على أمره، بل من أجل نزع سلاح نظام الأسد الكيماوي خوفاً - ربما - من استخدامه ضد إسرائيل بطريقة أو بأخرى، قطعاً ستكون خارج سيطرة النظام. ومع التقهقر الأمريكي المؤسف بعد لقاء كيري ولافروف في جنيف تُرك الشأن السوري للحل الدبلوماسي، وأضحى ككرة يتقاذفها الروس والأمريكان في مشهد عبثي يشبه لعبة شد الحبل، فالأمريكيون يصرحون بأنه بالذهاب لجنيف2 فإنه ليس هناك مكان للأسد في المشهد السياسي السوري، وفي المقابل يصرح الروس بأنه من يقول إنه ليس هناك مكان للأسد بعد جنيف2 هو واهم. موقفان على طرفَي نقيض، والنتيجة مأساة لا تنتهي للشعب السوري الذي سيواجه قريباً شتاءه الثالث مع الجوع والقهر والتشرُّد.
الملف الثالث الذي يطل برأسه لتعكير العلاقة بين البلدين هو الملف النووي الإيراني، هذا الملف الذي أصبح هاجساً حقيقياً لدول المنطقة، قادة وشعوباً. ومما يزيد من الشكوك حول هذا الملف هو أنه ملف نظرياً بدأ من الستينيات من القرن المنصرم إبان حكم الشاه، واستمر لثلاثين سنة منذ ثورة الخميني، وله في الأجندة الإعلامية ما يقارب ست سنوات، يصبح عليه أهل المنطقة ويمسون. ومع شعور متزايد من أهل المنطقة بأن هناك مؤامرة تحاك ضد المنطقة، أطرافها إيران والغرب، لتقويض الإسلام السني، ونشر التشيع، وتعيين إيران مرة أخرى كشرطي للخليج للقيام بالدور الذي كان يلعبه الشاه. ولكن الشرطي الإيراني الجديد المعيَّن من قِبل الغرب يرتدي عمامة سوداء، ويتدثر بغطاء الدين، وبين أصابعه قوة نووية مدمرة، ومسلح حتى أسنانه، يسرح ويمرح في المنطقة كما يريد، من الخليج العربي إلى بحر العرب، مع تعزيز النفوذ المتزايد في شرق البحر الأبيض المتوسط، الذي يتضح جلياً في كل من سوريا ولبنان. نظام يحتل ثلاث جزر إماراتية (طنب الكبرى، طنب الصغرى، وأبو موسى)، ولا يستشعر حرجاً في التبجح علناً بأن مملكة البحرين جزء من أراضيه.
على كل حال، قد لا يختلف اثنان بأن الرئيس الأمريكي باراك أوباما يتمتع بشخصية كاريزمية، قد يتفوق بها على الرئيس الأمريكي الشهير جون كيندي، غير أن مواقفهما فيما يخص الدفاع عن السياسات الأمريكية على طرفَي نقيض؛ فكيندي كاد يشتبك مع الاتحاد السوفييتي في حرب نووية خلال أزمة الصواريخ السوفييتية المنصوبة في خليج الخنازير في كوبا، وأرغم بموقفه غير المهادن الاتحاد السوفييتي على سحب صواريخه لتنتهي أزمة كادت تنشب إثرها حرب عالمية ثالثة. في المقابل، يتعامل الرئيس أوباما مع ملفات حساسة للغاية للأمن القومي الأمريكي، كالملفَّين السوري والنووي الإيراني، بعقلية المحامي لا بعقلية السياسي. فهو يؤمن بسياسة النفس الطويل وسياسة جمع المعلومات عن الخصم، انطلاقاً من مبدأ أن المعلومة قوة Knowledge is Power. والبحث عن شهية الحصول على معلومات في عهده لم يستثنِ منها حتى الأصدقاء؛ إذ ما زال صدى فضيحة التجسس الأمريكية حديث الساعة ووسائل الإعلام، فضحية يقال إنها طالت أكثر من 35 زعيماً عالمياً، ولم ينجُ منها حتى أصدقاء الرئيس أوباما كما هو الحال مع المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل. ويبدو أن الخيار العسكري غير موضوع على طاولة الرئيس أوباما، وهو من جاء في ولايته الأولى بوعود بسحب الجيش الأمريكي من العراق، وبوعد في ولايته الثانية بسحب الجيش من مستنقع أفغانستان. وتتضح عدم رغبته بالخيار العسكري في الاستخدام الموسع للطائرات من دون طيار في مواجهة أعداء أمريكا المحتملين. كذلك يلعب العامل الاقتصادي دوراً محورياً في عدم رغبته في استخدام الحل العسكري بشكل عام، وخصوصاً بعدما تعرضت له أمريكا من أزمة مالية خانقة، ما زالت تداعياتها مستمرة، وبنسبة بطالة عالية. ولعله فهم الدرس جيداً من الرئيس الأمريكي بوش الابن الذي خلف له الرئيس الأمريكي كلينتون اقتصاداً بفائض مالي؛ لينتهي الأمر بأمريكا بخوض حربين في آن واحد، في كل من العراق وأفغانستان، كانت نتيجتهما عجزاً خرافياً في الميزانية الأمريكية، فاق التريليون دولار، ولا تزال الحكومة الأمريكية بقفل مكاتبها في حالة عدم رفع سقف الاقتراض للتمكن من الصرف على عملياتها.
وعلى كل حال، ستبقى العلاقات السعودية - الأمريكية علاقات استراتيجية مستندة في ذلك لعشرات السنين من التعاون بين البلدين، وإلى جانب إنساني يتعلق بآلاف الأسر الأمريكية والسعودية التي عاشت في المملكة وأمريكا عبر سنوات العلاقة، وتحمل في مخيلتها ذكريات لا تُنسى. وحالياً هناك آلاف الطلبة والطالبات السعوديين الذين يتلقون دراساتهم في أمريكا، والذين يشكلون رافداً إنسانياً لا يمكن تجاهله في تقوية العلاقات بين البلدين. وستبقى العلاقات السعودية - الأمريكية علاقات جوهرها التعاون فيما يعزز السلم والأمن الدوليين، مع احترام وتفهم متبادل بين طرفَيْها لخصوصيات كل طرف.
ختاماً، بدأت هذه المقالة بمقولة أمريكية شهيرة، وتنتهي بمقولة أمريكية شهيرة هي «Desperate means call for desperate Measures»، ومعناها: «الأوضاع الصعبة تستوجب قرارات صعبة»، وهذا الذي لم يحصل من الإدارة الأمريكية الحالية في ملفات تهم منطقة الشرق الأوسط خاصة، والعالم أجمع، كالقضية الفلسطينية، والمأساة السورية، والملف النووي الإيراني.