بلغ الغزل العلني الأمريكي الإيراني أقصى مداه خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثامنة والستين بمقر المنظمة بنيويورك بمكالمة هاتفية بين كل من الرئيس الأمريكي باراك أوباما ونظيره الإيراني حسن روحاني.
لتعلن المكالمة فيما يبدو عن عودة الدفء العلني للعلاقات بين البلدين بعد أكثر من ثلاثة عقود من العداء المعلن الذي لم يؤد في ذروته لقيام إمكانية نزاع مسلح بين البلدين. وضع يطرح تساؤلات لا أجوبة لها عن الطبيعة الحقيقية لعلاقاتهما. وتزامناً مع المكالمة الهاتفية بين الرئيسين التي وصفتها الصحافة الفرنسية بالتاريخية والتي اختلفت رواية كل من الطرفين كعادة المحبين المختصمين في من كان البادي بالتواصل، ظهر كل من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ونظيره الإيراني محمد جواد ظريف، الذي اختير بعناية لهذه المرحلة لإجادته اللغة الإنجليزية، وفي أول لقاء علني بين مسئولين من البلدين منذ ثورة الخميني في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم.
وقبل المكالمة بين الرئيسين أرسل كل منهما رسائل تودد للآخر من خلال كلمتيهما ممهدين الطريق للتواصل الذي كان متوقعاً لأسباب عديدة لعل أهمها ما حدث من اتفاق تجنب فيه نظام الأسد حليف طهران ضربة عسكرية أمريكية كانت شبه مؤكدة. أكد الرئيس أوباما في خطابه وفي رأي مطابق للرؤية الإيرانية بأنه ليس هناك إمكانية لحل عسكري للمشكلة السورية، وبأن من سيحكم سوريا قرار ينفرد به الشعب السوري، وطالب كلاً من إيران وروسيا بتفهم أن الأسد لم يعد من الممكن له قيادة سوريا وبأنه ومع ذلك لا بد من إعطاء التطمينات الكافية للعلويين والأقليات الأخرى، وبرر سبب عدم التدخل في سوريا بأنه لو حدث لقيل بأن أمريكا تحشر نفسها في كل مشاكل المنطقة وبأنها من وراء كل المؤامرات التي تحاك للمنطقة. وفي المقابل إذا لم تتدخل لاتهمت بأنها غير مهتمة بحل مشاكل المسلمين. ويضيف الرئيس بأن بعض هذه الاتهامات لا يمكن تجاهلها ولكن هناك أيضا الرأي العام الأمريكي داخل أمريكا نفسها الرافض للتدخل والراغب في مشاركة المجتمع الدولي وقادة المنطقة في مواجهة مشاكل المنطقة.
اللافت للنظر بأن الرئيس أوباما ربط بين ما حدث من هجوم كيماوي في سوريا أوقع ضحايا مدنيين وبين ما تعرض له اليهود من إبادة في غرف الغاز النازية وما تعرض له مئات آلاف من الجنود الإيرانيين، في إشارة للمزاعم عن استخدام القوات العراقية السلاح الكيماوي ضد القوات الإيرانية خلال الحرب الضروس التي نشبت بينهما لمدة ثماني سنوات بدأت من سبتمبر 1980 لتضع أوزارها في أغسطس 1988. ولم يذكر الرئيس ما تعرضت له قرية حلبجة الكردية من هجوم بالأسلحة الكيماوية عام 1988 في نهاية الحرب العراقية الإيرانية وهو الهجوم الذي كان أقرب للمقارنة بما حدث في غوطة دمشق.
ومن خلال تطرقه للصراع في الشرق الأوسط بين الفلسطينيين والإسرائيليين إيران أيضا حاضرة في الخطاب حيث يقول بأن أمريكا مهتمة لحل هذا الصراع الأكثر تعقيداً من خلافاتنا مع إيران. وهي خلافات يُوصفها الرئيس أوباما بالقول بأن البلدين افترقا عن بعضهما منذ قيام ثورة الخميني عام 1979 وبأن عدم الثقة بين البلدين له جذور عميقة سببها شكوى الإيرانيين من تدخل أمريكا في شئونهم الداخلية ودور أمريكا في تغيير الحكومات الإيرانية خلال حقبة الحرب الباردة. في المقابل فإن أمريكا ترى في أن إيران تعلن بأن أمريكا عدوة لها وتقوم بنفسها أو من خلال أعوانها بقتل وخطف الأمريكيين وتهدد حليفنا إسرائيل بالتدمير. ويؤكد بأنه ومنذ أن استلم السلطة قام بالتواصل مع المرشد الأعلى الإيراني لحل ملف إيران بالطرق السلمية( أكثر من خمس سنوات) وبأن هذا التواصل استمر مع الرئيس روحاني وأشاد بتصريحه بأن إيران لن تطور سلاحاً نووياً وأشاد كذلك بفتوى المرشد الأعلى المتضمنة تحريم تطوير الأسلحة النووية، مضيفاً بأن أمريكا سوف تساعد الشعب الإيراني لتحقيق طموحاته الكامنة والبارعة في مجالات التجارة، الثقافة، وفي العلوم والتعليم. الملفت للنظر أيضا في خطاب الرئيس اوباما تطرقه للخلافات المذهبية بين المسلمين وبأن حل مثل هذه الخلافات يجب أن يتم بين المسلمين أنفسهم والتي لا يمكن حلها من قبل الآخرين ضارباً المثل بإيرلندا الشمالية حيث اصطلح الكاثوليك والبروتستانت بعد صراع طويل مدم، على أن تشبيه للصراع القائم في البحرين بالاحتقان الطائفي هو تشبيه يطابق وجهة النظر الإيرانية التي ترى بأن شيعة البحرين يواجهون تهميشاً طائفياً ممنهجاً، وهو أمر وكما هو معروف ينافي الحقيقة بالمطلق.
بالمقابل جاء خطاب الرئيس روحاني مقتضباً ومليئاً كعادة السياسيين الإيرانيين في استعمال الألفاظ غير الواضحة فيما يخص رؤيا إيران للمنطقة. بيد أن الخطاب كان شديد الوضوح فيما يتعلق بتودد إيران لأمريكا والذي سبقه اعتراف الرئيس روحاني بالمحرقة اليهودية على يد النازيين الألمان ( الهولوكوست)، واتضح ذلك في العديد من المؤشرات التي تضمنها الخطاب. طبعا أشاد بإيران كونها قوة ديمقراطية ذات قبول شعبي من قبل مواطنيها وبأنها ملجأ الاستقرار في منطقة تزخر بمحيط من المشاكل. وبأن إيران لا تشكل خطراً على الأمن والسلام الدوليين بل بالعكس فهي داعية للسلام العادل والأمن الشامل. وأكد بأن الإيرانيين في الانتخابات التي جاءت به رئيساً صوتوا للوسطية ولغد مشرق داخلياً وخارجياً وبأن الحلول العسكرية لا تضمن حلاً للنزاعات، وبأن سياسة إيران هي حل النزاعات لا إشعالها. ورحب بقبول سوريا الانضمام لاتفاقية حظر الأسلحة الكيماوية متفقاً مع الرؤى الأمريكية بأن الحل في سوريا يجب أن يكون سياسياً وبأن فرض التغيير من الخارج أمر خطير ولا يمكن له إلا أن يعقد الأمور، وهي نقطة يتفق معه فيها الرئيس أوباما الذي استشهد فيها بفشل التجربة الأميركية بفرض الديمقراطية في العراق. وفيما يتعلق بالملف النووي الإيراني جاء خطابه كمؤشر كان متوقعاً لوضع حد نهائي له بعد سنين أصبح فيها استمراره امراً مريباً يؤكد على وجود أجندات خفية بين أطرافه. ووضع الرئيس روحاني محورين لحل هذا الملف، المحور الأول يمثل في التأكيد على أن برنامج إيران النووي هو للاستخدامات السلمية، والمحور الثاني بأن تخصيب اليوارنيوم للأغراض السلمية وصل لمراحل متقدمة لا يمكن إيقافها من خلال الضغوط غير الشرعية، معلناً ما كان ينتظره الجميع بأن الجمهورية الإسلامية الإيرانية جاهزة للبدء فوراً في محادثات لتبديد كل الشكوك حول برنامجها النووي وبناء الثقة على مدى سلميته. ووجه ثناء لكلمة الرئيس الأمريكي أوباما للجمعية العامة قائلاً بأنه استمع لها ملياً ويأمل بأن تبتعد أمريكا عن الرؤية القصيرة المدى وجماعات الضغط فيما يخص علاقاتها مع إيران وبأن كلاً من إيران وأمريكا قادرتان على حل كل خلافاتهما، وبأنه يأمل في سماع صوت مشابه من واشنطن لما صرح عنه.
ويختم خطابه باقتباسين لهما قطعاً مغزى لا يمكن أن يمر بدون ملاحظة. الاقتباس الأول من القرآن الكريم من سورة الأنبياء وتحديداً آية “ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون”، والاقتباس الآخر بيت شعر للشاعر الفارسي الشهير حكيم أبو القاسم فردوسي، كاتب الملحمة الفارسية الكبرى “شاهنماه”، ويقول بيت الشعر: عليك أن تكون صعب المراس في الكفاح من أجل العمل الصالح *** عليك أن تأتي بالربيع وتبعد الشتاء.
ومع كل هذا الغزل المتبادل بين كل من إيران وأمريكا فإنه لم يفت على الرئيس الأمريكي أوباما التأكيد من خلال خمس محاور قال إنها ثوابت للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط وهي: أن أمريكا ستستمر في استعمال كل ما لديها من عناصر القوة بما فيها القوة العسكرية لضمان مصالحها في المنطقة، وبأنها ستواجه كل عدوان خارجي موجه لحلفائها وشركائها كما فعلت في حرب الخليج، وبأن أمريكا تضمن سلامة طرق نقل الطاقة من المنطقة للعالم، وبأنها سوف تفكك الخلايا الإرهابية التي تهدد مواطنيها بالتفاهم مع شركائها مع تفهمها لسيادة الدول على أراضيها، وأخيراً بأنها لن تتساهل مع استخدام أسلحة الدمار الشامل.
أخيراً ففي عالم السياسة ليس كل ما يظهر على السطح هو الحقيقة فهي كجبل الجليد لا يظهر منه إلا أعلاه وما خفي هو الأعظم. ولعل ما قد يطابق حقيقة هذا الأمر هو كاريكاتير مضحك ولكنه ذو معنى عميق أوردته صحيفة هاآرتس الإسرائيلية يصور رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتينياهو وهو يقف بين كل من الرئيس الأمريكي أوباما والإيراني روحاني محاولاً أن يفسد علاقة الحب العلنية القائمة بينهما، بيد أن غالبية من الساسة الإسرائيليين يعارضونه في ذلك.