بعد ما يقارب الخمسة عشر عاماً من غربته عن أهله وأحبته، تمكَّن (صابر) بفضل الله سبحانه وتعالى من ادّخار مبلغ جيد من المال، وكان وزوجته يحلمان في امتلاك بيت خاص بهما وأبنائهما، والبيت الحلم ليس بيتاً كبيراً أو فيلا، إنما هو أحد بيوتات القرميد التي منحتها وكالة الأمم المتحدة لغوث اللاجئين الفلسطينيين للنازحين من أراضيهم التي سرقها الصهاينة عام 1948م والعالم كله يشهد، وعلى وجه التحديد أحد بيوتات المخيم الذي نشأ فيه.
وفور عودته لقضاء إجازته السنوية بين الأهل والأحبة من الأصدقاء والجيران، شرع (صابر) بمساعدة أصدقائه في البحث عن البيت المنشود، وبعد أسبوعين من البحث المتواصل اتضح أن المبلغ المدّخر لا يؤهل لذلك، فرأى - وأيَّده المحبون من حوله - أن يحفظ المبلغ في شراء قطعة أرض، بحيث يبيعها في الوقت الذي يجد فيه البيت المناسب، وبالفعل اشترى (صابر) قطعة أرض بمساحة معقولة تقدَّر بحوالي 375م2.
وفي إجازة العام التالي، كانت فرحة (صابر) كبيرة جداً؛ إذ ارتفعت أسعار الأراضي إلى الضعف، فعاود وأصدقاؤه البحث مجدداً عن البيت المأمول، حتى وجد بيتاً معقولاً، فيه أربع غرف، ومطبخ، ودورتا مياه، وحوش كبير، وصادف أن هذا البيت قريب جداً من والدته، وقريب أيضاً من بيت (مخلص)؛ أحد الأصدقاء الأعزاء الذين شاركوه رحلة البحث، فذهبا (هو وصديقه مخلص) إلى صاحب البيت، واتفقا معه على كل شيء، لكنه؛ أي صاحب البيت، طلب مهلة بعض الوقت ليُقنع أخاه الأصغر ببيع البيت؛ إذ ورثاه عن أبيهما.
اقترب موعد عودة (صابر) لغربته دون أن يصل الأخوان إلى قرار، فاتفق (صابر) مع صديقه (مخلص) على أن يبيع قطعة الأرض، ويتمم عملية شراء البيت فور اتفاق الأخوين على البيع، وأعطاه صك ملكية الأرض (الطابو)، وكتب له تفويضاً بذلك.
وليلة سفر (صابر)، جاء صديقه (مخلص) والأصدقاء الآخرون لسهرة الوداع، وبعد عناق حميمي طويل اختلطت فيه الدموع، ركب (صابر) وزوجته وأبناؤه السيارة لتقلهم إلى جسر الملك حسين؛ المنفذ البري بين فلسطين والأردن، تاركين نبض قلوبهم بين أحبتهم وأصدقائهم، وحاملين معهم دموعهم وآهاتهم؛ كيف لا وهم مقبلون على عام غربة جديد لا مجال فيه لرؤية محبيهم أو أي نوع من أنواع التواصل معهم؛ فالتواصل مع فلسطين المحتلة في ذلك الحين لم يكن متاحاً، وتقنية اليوم لم تكن قد وجدت بعد، فكانت الرسائل الورقية هي الوسيلة الوحيدة للتواصل، إلا أنها كانت تتم عبر وسيط؛ إذ تنتقل الرسالة جواً من بلد الغربة إلى مكتب خاص في لندن، ومن ثم يحيلها المكتب إلى العنوان المحدد في فلسطين، وهكذا الأمر للرسالة الجوابية من فلسطين إلى بلد الغربة، فكان وصول الرسالة يسغرق شهراً على الأقل في كل اتجاه.
بعد حوالي شهرين أو يزيد تلقى (صابر) أول رسالة من الأهل؛ ووصول رسالة من الأهل بالنسبة له بمثابة هدية عظمى يجدد معها أنفاسه، ويستمد منها صبره على عذابات غربته وبعده، فينكب على قراءتها، وهو يعانق ذكريات الشهر الذي قضاه معهم وبينهم، ويقف على مشاعرهم بعد مغادرته لهم، فتختلط المشاعر بين بسمة ترتسم على الشفاه، ودمعة تلهب الوجنات.
فتح (صابر) الرسالة متعطشاً لما ستحمله من أخبار، لكنه صعق بخبر يتصل بصديقه (مخلص) الذي منحه تفويضاً ببيع الأرض، وشراء البيت الحلم!
لم يمت (مخلص)، ولم يصب بأي أذى يعطّله عن شراء البيت، بل أطلق رصاصة الغدر نحو ظهر (صابر)؛ إذ تمم بالفعل عملية الشراء، ولكنها ليست لـ(صابر)، إنما لنفسه!
رصاصة غادرة، لكنها - بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بصدق إيمان (صابر) واتكاله على الله وتسليم أمره له سبحانه - لم تقتله، لكنها أصابته فأحدثت فيه جرحاً عميقاً استمر نزيفه أربع سنوات ثِقال، لم يهنأ له فيهن نوم، ولم يهدأ له بال، حتى هلّ عليه كرم الله سبحانه وتعالى، ففتح عليه باباً واسعاً من الرزق، تمكَّن من خلاله من تصميم البيت الذي يريد، وتشييده على قطعة الأرض التي اشتراها ليحفظ بها حفنة لا تذكر من المال!
صدق الله العظيم؛ {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة، الآية: 216)؛ لقد كره (صابر) فِعلة (مخلص) كرهاً عظيماً، ولم يكن يحسب أنها ستجلب له الخير العميم؛ كيف لا، وقد اكتشف معها معدن هذا الصديق؛ وهذه نعمة عظمى لا تقدَّر بثمن!
ثم؛ كيف لا، وقد أبدله الله ذلك البيت ببيت لم يسمح لنفسه لحظة أن يحلم به!
فسبحان الله العظيم، وسبحان الله وبحمده.